| سيرة سيد الخلق | |
|
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
المغربي المراقبون
عدد المساهمات : 1622 تاريخ التسجيل : 27/01/2014
| موضوع: رد: سيرة سيد الخلق الأحد 06 يوليو 2014, 08:01 | |
| موت عبد الله بن أبي بن سلول
شاء الله سبحانه .. أن تحدث ضربة أخرى قاصمة للمنافقين... لتصبح هذه هي الضربة الثالثة للمنافقين في خلال شهرين اثنين فقط..
فكانت الضربة الأولى .. هي اختبار تبوك الذي كشف أوراق المنافقين بالمدينة لجميع المسلمين..
وكانت الضربة الثانية ...هي هدم مسجدهم الفاسد..
أما الضربة الثالثة فكانت موت أكبر زعماء النفاق في المدينة.. والذي تولى كبر حركة النفاق لمدة 7 سنوات متتالية... وحتى العام التاسع من الهجرة.. وهو (عبد الله بن أُبيّ بن سلول)...
و(عبد الله بن أُبي بن سلول) تاريخه مع المسلمين أسود حالك السواد... فما أكثر الفتن التي أثارها... والمصائب التي زرعها في الصف المسلم..
وتعرضنا في السيرة لعدة مواقف من حياته سواء في أُحُد.. أو في الأحزاب... أو في بني المصطلق.. أو في الخروج للحديبية.. أو في تبوك.. ووصل الأمر إلى أنه قاد حملة للطعن في شرف (عائشة بنت الصديق) رضي الله عنهما.. ناهيك عن موالاته للمشركين واليهود... وما ذكرناه من مواقفه ...أقل بكثير مما أغفلناه..
لكن ....لكل شيء نهاية.. فالمؤمن يموت... والمنافق كذلك يموت.. والصادق يموت.. والكاذب كذلك يموت..
وكما تعب الصالحون من أبناء هذه الأمة.. وجاهدوا وأنفقوا وضحوا.. كذلك تعب (عبد الله بن أُبيّ بن سلول).. وجاهد وأنفق وضحى.. لكن شتان بين من يجاهد في سبيل الله.. ومن يجاهد في سبيل الشيطان..
قال تعالى ..
(وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)
وجاءت لحظة ...ظنها (ابن سلول) بعيدة... جاءت لحظة الموت.. و مرض (ابن سلول) في أواخر أيام شوال سنة 9هـ... واستمر مرضه 20 يوما ..
ومع أنه كان يدرك أن هذا هو الموت.. وظهر ذلك في كلماته.. إلا أنه كما قال الله..
(رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ)
رسول الله يزور ابن سلول في مرضه
العجيب.... واللافت للنظر... والذي يحتاج إلى وقفات عديدة .. هو أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)... كان دائم الزيارة له في بيته يعوده في مرضه الأخير..
سبحان الله ...!
بعد كل هذا الآلام التي سببها (ابن سلول) .. ما زال (صلى الله عليه وسلم) يزور هذا الرجل.. علما أنه ليس فقط من مردة المنافقين... بل هو أشدهم على الإطلاق..
وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يزوره لأكثر من هدف..
فهو (صلى الله عليه وسلم) ما زال يرجو إسلام (ابن سلول) .. وبرغم تاريخه الطويل في النفاق..
إلا أن القلوب بين أصابع الرحمن.. فلعل الله سبحانه أن يغير قلبه في اللحظات الأخيرة .. فيُستنقذ من الكفر إلى الإيمان... وينجو من النار إلى الجنة..
أو كما يقول (صلى الله عليه وسلم).. "وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع.. فيسبق عليه الكتاب.. فيعمل بعمل أهل الجنة... فيدخل الجنة"..
والرسول (صلى الله عليه وسلم) في ذلك يضرب أروع الأمثلة للدعاة.. فهو لا يُكمن غيظا في قلبه يدفعه إلى الرغبة في التشفي.. لكنه بمنتهى سلامة الصدر... وبمنتهى التجرد.. وبمنتهى الصدق ...يسعى لهدايته لرب العالمين..
ومن أهداف الزيارة أيضا ...أن يتألف (صلى الله عليه وسلم)قلوب قومه.. فـ (عبد الله بن أبي) زعيم الخزرج.. وأتباعه كثير وأحبابه.. ومن يستمعون لرأيه لا شك أنهم قد يتأثرون إيجابيا ..بوده (صلى الله عليه وسلم) ورفقه .. وقد حدث ذلك فعلا...
ومن أهداف الزيارة أيضا ... أن يرفع (صلى الله عليه وسلم) من قيمة ابن (ابن سلول) .. وهو (عبد الله بن أبي) .. وهو من سادات وفضلاء الصحابة... وممن أثبتوا إخلاصهم.. وممن ساهموا بشكل إيجابي في نصرة الإسلام.. وفي خدمة الدولة الإسلامية...
وكان (صلى الله عليه وسلم) لا يريد له أن يُسبّ بأبيه.. أو يُعير بتاريخ النفاق الأسود لوالده... فأراد (صلى الله عليه وسلم) أن يقوم بهذه الزيارات.. لعل ذلك يخفف من حدة الأزمة عند الصحابي (عبد الله بن أبي)..
والحق ... أن هذا منتهى اللطف من الرسول (صلى الله عليه وسلم)... ومنتهى الرقة والعطف.. لأن موقف (عبد الله بن أبي) صعب شديد الصعوبة..
و ضع نفسك مكانه.. وهو يجلس في مجالس الصحابة.. فيكون الحديث كثيرا عن المشاكل والأزمات التي سببها أبوه... وهو لا يستطيع أن يفعل معه شيئا... بل عليه أن يبرّه ويحسن إليه...
الحق أنه موقف صعب.. وكانت زيارات الرسول (صلى الله عليه وسلم) المتكررة للأب المنافق.. من أهم الأشياء التي خففت على (عبد الله) أزماته..
ثم كان اليوم الأخير في حياة (ابن سلول) .. ودخل عليه الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهو حزين ... لأنه لا زال على النفاق..
فقال له (صلى الله عليه وسلم).. "قد نهيتك عن حب يهود"
فقال (ابن سلول) في سوء أدب واضح... وفي عناد إلى آخر لحظة.. قد أبغضهم أسعد بن زرارة.. فما نفعه؟!
أي أن بغض (أسعد بن زرارة) لليهود لم يمنع (أسعدا) من الموت.. وكان (أسعد) قد مات بعد الهجرة النبوية بـ 4 أشهر فقط.. وكان يكره اليهود جدا لمعاداتهم لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)...
وهذا تعليق غبي من (ابن سلول)..!
وهو ما نسميه بغباء النفاق... وسببه طمس البصيرة..
فمن ذا الذي قال.. إن حب قوم أو بغضهم يورث خلودا في الدنيا ؟! ..
فجميع البشر.. سواء كانوا مؤمنين أو منافقين أو كفارا.. يدركون أن الموت متحقق لكل البشر... وأنه لم يكن هناك ..ولن يكون خالد على الأرض... ولا حتى الأنبياء..
(وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ)
بعدها ..
حاول (أبن سلول) أن يكون واقعيا .. فقال .. يا رسول الله.. ليس هذا بحين عتاب ... هو الموت..! فإن مت فاحضر غسلي.. وأعطني قميصك أكفن فيه..!
فماذا حصل بعدها ؟! | |
|
| |
المغربي المراقبون
عدد المساهمات : 1622 تاريخ التسجيل : 27/01/2014
| موضوع: رد: سيرة سيد الخلق الأحد 06 يوليو 2014, 08:02 | |
| طلب (ابن سلول) لقميص النبي
هذا طلب قد يستعجبه كثير من الناس... فكلنا يعلم نفاق (ابن سلول) .. فلماذا يطلب هذه الطلبات من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؟!
والحق أن الطلب فعلا عجيب...
ولا ندري على وجه اليقين ...ما الذي كان يدور بخُلد (ابن سلول) ؟!
أتراه أدرك فجأة حقيقة الأمر... فأراد أن يتوب عن حياته السابقة؟!
هذا احتمال بعيد...!
بل لعله غير موجود أصلا.. لأن الله أنزل آيات شديدة في حقه.. وحق المنافقين بعد موته.. فهذه دلالة على الكفر حتى في لحظات موته الأخيرة..
أم تراه مع نفاقه يطمع في فرصة نجاة من النار... فأراد أن يأخذ قميص رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ... لعله يخفف عنه أو يشفع له؟
أم تراه ما زال مستمرا في نفاقه... فيظهر تقربه من الرسول (صلى الله عليه وسلم) مع إبطانه للكراهية الشديدة له؟
الله أعلم بحاله....
لكن رد فعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان رقيقا للغاية.. فأعطاه (صلى الله عليه وسلم) قميصه الأعلى...
وكان عليه (صلى الله عليه وسلم) قميصان..
فقال (ابن سلول) ...أعطني قميصك الذي يلي جلدك... وصل علي... واستغفر لي...
فعاد (صلى الله عليه وسلم) إلى بيته...! ونزع ثوبه الذي يلي جلده...! وأعطاه لـ (عبد الله) ولد (ابن سلول) ليستعمله ككفن لأبيه...!
فلماذا أعطى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قميصه لهذا المنافق؟!
كما قلنا قبل ذلك... فهو (صلى الله عليه وسلم) يُعلي من قدر ومكانة ابنه (عبد الله).. وكان (صلى الله عليه وسلم) ا يرد سائلا قَطُ... كما أنه كان يتألف قلوب قومه..
بل إنه (صلى الله عليه وسلم) قال في رواية.. "إن قميصي لايغني عنه من الله شيئا .. وإني لأرجو أن يُسلم بفعلي هذا ألف رجل من قومه"..
وقد ذكر ابن إسحاق والقرطبي ... أن كثيرا من جماعة (ابن سلول) قد أسلموا وحسن إسلامهم بسبب هذه الفعلة..
وفوق ذلك... فإن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يكافئ (ابن سلول) ... على جميل صنعه في عم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ...(العباس).. في موقف مشابه.. والقصة في البخاري.. وفيها أن (العباس) عندما أتي به أسيرا في بدر.... لم يكن عليه ثوب سليم.. فأرادوا أن يأتوا له بثوب... وكان رجلا طويلا.. فلم يجدوا له إلا ثوب (ابن سلول) فجاء به... وأعطاه لرسول الله (صلى الله عليه وسلم).. فأراد (صلى الله عليه وسلم) أن يرد له ثوبا بثوبه الذي أعطاه لعمه... لكي يكافئه على جميله السابق...
ولما استلم (عبد الله) القميص من رسول الله (صلى الله عليه وسلم).. ليكفن أبيه ..
قال .. يا رسول الله... وصل عليه... واستغفر له...
فلم يتردد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)... وقام من فوره ليصلي على رأس المنافقين (ابن سلول) ..
ولم تكن هذه الآية تحريم الصلاة على المنافقين قد نزلت ..
بل كانت آية ..
(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)
فلما قام الرسول (صلى الله عليه وسلم) ... تعلق به (عمر) ..
وأمسك بثوبه .. وقال له .. يا رسول الله.. تصلي عليه... وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟!
وهذا اجتهاد موفق من (عمر).. لأنه كما ذكرنا... لم تكن آية النهي عن الصلاة قد نزلت بعد.. لكن الذي نزل كان آية النهي عن الاستغفار... ولقد حمل (عمر) معنى الصلاة على أنها استغفار... وإنها لكذلك.. لأن الصلاة من الله رحمة.. ومن النبي (صلى الله عليه وسلم) استغفار.. ومن المؤمنين دعاء..
لكن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان له فقه آخر للآية.. فقد فقه الآية في إطار رحمته المعروفة.. وفي ضوء حبه لنجاة أهل الأرض جميعا من النار..
فقال (صلى الله عليه وسلم) في عطف شديد.. "إنما خيّرني الله .. فقال (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)..
ثم قال (صلى الله عليه وسلم) .. "وسأزيده على السبعين"..
أي سأحاول قدر المستطاع أن أسأل الله له المغفرة... مع أن معنى الآية الواضح ...أنه ليس مقصودا فيها عدد السبعين بالذات.. إنما ذكر العدد لضرب المثل للكثرة.. أي مهما استغفرت لهم... فلن يغفر الله لهم.. فلن يجدي أيضا استغفار ثمانين.. أو تسعين.. أو مائة..
لكن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أخذ بظاهر الآية.. لأن في ذلك موافقة لجانب الرحمة والشفقة الذي يتصف به (صلى الله عليه وسلم)..
ومع ذلك .. لم يقتنع (عمر) .. فقال .. إنه منافق..
أي ماذا يجدي الاستغفار لرجل يبطن الكفر ويظهر الإسلام؟
لكن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أصر على رأيه... وصلى عليه بالفعل رحمة به.. ورحمة بابنه .. وتأليفا لقلوب قومه....
عند ذلك نزل قول الله تعالى .. موافقا لقول (عمر) .. وناهيا رسوله الكريم (صلى الله عليه وسلم) عن أن يفعل ذلك ثانية..
فقال الله سبحانه ..
(وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ)
فأثبت الله لهم الكفر.. ونهى عن الصلاة عليهم.. وأصبح هذا الحكم عاما في المنافقين المعلومين عن طريق الوحي بأنهم من المنافقين.. ولا يجري بالطبع هذا الحكم على بقية المسلمين الذين يشك في إسلامهم ما دام ظاهرهم الإسلام.. ولم يكن في أمرهم وحي..
وقد أخبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الصحابي (حذيفة بن اليمان) بأسمائهم .. فكان (عمر) في عهد خلافته .. يصلي على كل المسلمين.. إلا أن يرى (حذيفة) لا يصلي عليهم .. فيقف..
وبموت (ابن سلول) .. انحسرت جدا حركة النفاق في المدينة المنورة.. وكسرت إلى حد كبير شوكتهم.. | |
|
| |
المغربي المراقبون
عدد المساهمات : 1622 تاريخ التسجيل : 27/01/2014
| موضوع: رد: سيرة سيد الخلق الأحد 06 يوليو 2014, 08:02 | |
| أبو بكر أميرا للحج ونزول براءة
في آخر السنة التاسعة للهجرة .. أرسل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وفدا من المسلمين للحج.. ولم يذهب هو معهم.. وإنما أَمّر على الناس (أبا بكر الصديق)...
وسبب عدم ذهابه (صلى الله عليه وسلم) إلى الحج في هذا العام .. أن الحج كان مفتوحا للمسلمين والمشركين معا.. ولما كان هناك بعض البقاع في الجزيرة ما زالت على الشرك... فإنه من المتوقع أن تذهب منهم أفواجا للحج..
وأخبر الصحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم).. إن المشركين يحضرون.. ويطوفون بالبيت عراة...
فقال (صلى الله عليه وسلم)... "لا أحبُ أن أحُجّ حتى لايكون ذلك"..
وخرج بالفعل وفد الحج إلى مكة المكرمة.... بقيادة (أبي بكر)..
وبعد خروج الوفد ... نزل صدر سورة "براءة" في المدينة .. ببعض التشريعات المهمة في تعامل المسلمين مع المشركين.. وفيها إعلان مصيري بالنسبة لكل شرك في الجزيرة العربية..
كما أن الآيات وضحت ...أن هذا الإعلان يجب أن يكون في الحج...!
بل حددت يوما بعينه ...هو يوم الحج الأكبر...!
قال تعالى ..
(وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ)
واختلف العلماء في تحديد يوم الحج الأكبر .. فمنهم من قال إنه يوم عرفة .. ومنهم من رجح أنه يوم النحر ..
وأمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .. (عليا بن أبي طالب) .. أن يحمل هذه الآيات القرآنية الكريمة .. وينطلق بها إلى مكة ليقرأها على أسماع جميع الناس..
وكان من عادة العرب .. أنه إذا أراد زعيم قبيلة أن يقطع عهدا مع قوم آخرين ... أن يقوم هو بنفسه ...أو أحد من أهل بيته بإعلان هذا القطع.. ولذلك أوكل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .. (عليا) لهذه المهمة .. لكونه ابن عمه .. وليكون هذا الإعلان نافذا عند عموم العرب...
ولذلك ... عندما رأى (أبو بكر الصديق).. (عليا) قبل أن يصل هو لمشارف مكة .. ومعه هذا البيان ..
سأله (أبو بكر) .. أمير أم مأمور؟!
فقال (علي)... بل مأمور...
وهكذا سارت الرحلة المباركة... حتى وصلت لبيت الله الحرام .. وبدأت مراسم الحج..
فكان (أبو بكر) يُعرّف الناس أمور دينهم... ومناسك الحج.. بينما كان (علي) يقرأ صدر سورة التوبة على الناس ...ليُعلمهم بالتشريعات الجديدة...
ولننظر ...ماذا كان يقرأ (علي) في هذا الإعلان الرباني الفريد..؟!
قال تعالى..
(بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ)
ثم تستمر الآيات على هذا النسق... وهي تحمل التشريعات تلو التشريعات في بيان في غاية الأهمية...
ثم بعد قراءة هذا الآيات كان (علي) ينادي في الناس بأحد أربعة...
لا يدخل الجنة إلا مؤمن ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته ولا يحج بعد العام مشرك | |
|
| |
المغربي المراقبون
عدد المساهمات : 1622 تاريخ التسجيل : 27/01/2014
| موضوع: رد: سيرة سيد الخلق الخميس 10 يوليو 2014, 05:48 | |
| وصايا النبي في حجة الوداع
هنا .. نحب أن نقف على المعاني العميقة.. والنصائح القيمة .. التي حفلت بها خطبة النبي (صلى الله عليه وسلم) في حجة الوداع ..
وسبحان الله.. فمع قصر الخطب.. واختصار كلماتها.. إلا أنها حوت ما لا يحصى من الفوائد والنصائح.. فقد أوتي جوامع الكلم..
إذ كان (صلى الله عليه وسلم) يستطيع أن يعبر بالكلمات القليلة ..عن المعاني الكثيرة والقواعد العديدة...
وكان طابع الخطب الثلاث التي خطبها الرسول (صلى الله عليه وسلم).. يختلف إلى حد ما عن خطبه السابقة في فترة المدينة المنورة..
إذ كان يغلب على طابع هذه الخطب ... أنها موجهة إلى الأمة الإسلامية في زمان قوتها وتمكينها..
ولقد كانت نصائح في غاية الأهمية ...لكل جيل إسلامي مُمكّن له في الأرض... لقد خاطب (صلى الله عليه وسلم) قبل ذلك الأفراد.. وخاطب المستضعفين في الأرض.. وخاطب المُحاصرين.. وخاطب المحاربين.. وخاطب الدعاة.. وخاطب المصيبين والمخطئين..
لكنه (صلى الله عليه وسلم) اليوم .. يخاطب الممكّنين في الأرض.. يضع أيديهم على القواعد التي بها يستمر تمكينهم ويتسع.. ويحذرهم من الأمور التي تُذهب هذا التمكين.. وتُسقط الدولة الإسلامية.. ويشرح لهم بوضوح دور الدولة الإسلامية في الأرض..
لقد كان خطابا لأمة ناجحة... بلغت الذروة في التشريع..
فقد كمل التشريع في هذه الحجة.. وبلغت الذروة في الحضارة.. والذروة في القيم والأخلاق.. والذروة في الفهم والتطبيق..
وعلى المسلمين أن يفقهوا جيدا ...أنه بغير هذه القواعد والأسس .. لن تُبنى لهم أمة.. ولن تقوم لهم قائمة...
واستخلصنا من خطبه (صلى الله عليه وسلم) الثلاث .. 10 وصايا في غاية الأهمية.. وسنحاول أن نسقط كل وصية على واقعنا المر .. لنر ما قدمناه للإسلام .. وما حافظنا عليه من وصاياه (صلى الله عليه وسلم) .
قال المصطفى (صلى الله عليه وسلم) ..
"وقد تركتُ فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا بعدي أبدا.. كتاب الله وسُنّة نبيه"
الله أكبر على الوضوح والجلاء..!
فهذا وعد من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأمته .. بعدم الضلال أبدا .. إن هي تمسكت.. واعتصمت بكتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وسلم)..
وكثيرا ما تضل الأمة وتضطرب.. وتدخل في متاهات لا نهاية لها.. والسبب هو التخلي عن بند من بنود الشريعة.. والإعراض عن أصل من الأصول التي جاءت في الكتاب والسنة...
فإن الله سبحانه ...حفظ لهذه الأمة دستورها.. ووعد باستمرار حفظه إلى يوم القيامة.. وهذا لخيرها... وخير الأرض بكاملها...
وكم تخسر الأرض.. وكم يخسر العالم بأسره.. وكم يخسر المسلمون.. وغير المسلمين بتغييب شرع الله عن واقع الناس ؟!
وللأسف .. كثيرا ما يُفتن المسلمون بمناهج الأرض الوضعية.. فينبهرون تارة بشيوعية.. وتارة برأسمالية.. وتارة بعلمانية.. ينبهرون بهذه المناهج الأرضية.. وينسون أن لديهم منهجا حُقّ لأهل الأرض جميعا أن ينبهروا به.. ذلك منهج رب العالمين.. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. تنزيل من حكيم حميد....
والشرع الإسلامي صيغ بدقة فائقة.. ليناسب كل زمان.. وكل مكان.. وبه من المرونة الكافية ما يسمح بتطبيقه في أي ظرف..
والشرع الإسلامي شرع شامل.. ما ترك صغيرة ولا كبيرة إلا غطاها..
ولا تقوم دولة إسلامية قياما صحيحا ..بغير تطبيق للشرع في سياستها واقتصادها.. وحروبها ومعاهداتها.. وقوانينها.. ومناهجها.. وكل أمورها.. دستور كامل متكامل..
يقول الله تعالى
(وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)
وحرام على من يمتلك الذهب ..أن يزهد فيما يملك.. ويرغب في التراب !
وحرام على من كان عليه أن يقود الناس ويُعلمهم ..أن ينقاد إلى غيره ويطيع !
وحرام على من كان بيده قرآن وسنة ...أن يدعهما وينظر إلى غيرهما..!
لذلك حرص (صلى الله عليه وسلم) ..على التأكيد على هذا المعنى في أيامه الأخيرة.. ففي موقف آخر من حياته الأخيرة (صلى الله عليه وسلم) .. ذكر مثل هذا المعنى بوضوح.. إذ روى الحاكم في مستدركه عن العرباض بن سارية..
قال: وعظنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) موعظة ذرفت منها العيون.. ووجلت منها القلوب فقلنا: يا رسول الله.. إنها موعظة مودِّع.. فأوصنا...
فقال (صلى الله عليه وسلم) .. "إنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كبيرا .. فعليكم بسنتي .. وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي .. عضّوا عليها بالنواجذ.."
فهذه أهم وصايا حجة الوداع... وأهم وصايا الرسول (صلى الله عليه وسلم)... لأن النجاة الحقيقية فعلاً في كتاب الله وفي سنته (صلى الله عليه وسلم)..
وكل الوصايا التي ستأتي بعد ذلك سيكون لها أصل في الكتاب والسنة.. ومن هنا كانت هذه الوصية جامعة شاملة فيها خير الدنيا والآخرة...
ولا يفوتنا أن نذكر .. أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نهى عن كل القوانين المخالفة للإسلام.. حتى لو كانت هذه القوانين شديدة الترسخ في المجتمع..
فقال (صلى الله عليه وسلم) في منتهى الوضوح..
"ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي .. ودماء الجاهلية موضوعة"
وكذلك وضع الربا.. ومع تأصل الثأر والربا في المجتمع إلا أنه يُنبذ... لأنه يتعارض مع القرآن والسنة..
فهل حفظنا وصيته (صلى الله عليه وسلم) في التمسك بالكتاب والسنة ؟!
وصية في غاية الأهمية ... وتأتي مباشرة في الأهمية بعد الاعتصام بكتاب الله... وسنة نبيه (صلى الله عليه وسلم) .. وهي الوحدة بين المسلمين...
ومع كثرة التوصيات بالوحدة في كل حياته (صلى الله عليه وسلم).. إلا أنه كان لا بد من إعادة التوصية في الأيام الأخيرة.. وإعادة التركيز عليها والتذكير بها...
فالأمة المتفرقة لا تقوم أبدا..
ولن ينزل نصر الله على الشراذم...
يقول (صلى الله عليه وسلم) في خطبة الوداع ..
"تعلمُنّ أن كل مسلم أخ للمسلم .. وأن المسلمين أخوة"
إنه التأكيد على حقيقة ... حرص عليها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من أول أيام الدعوة.. في فترة مكة.. كما في عتق العبيد .. وفي فترة المدينة.. كما في المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.. والميثاق بين الأوس والخزرج..
لقد كانت علاقة مميزة فعلا للدولة الإسلامية .. أن الجميع فيها أُخوة .. الحاكم أخو المحكوم.. والقائد أخو الجندي... والكبير أخو الصغير.. والعالم أخو المتعلم.. أخوة حقيقية بلغت إلى حد الميراث في أوائل فترة المدينة.. ثم نسخ الحكم وبقيت الأخوة في الدين.
ثم إن التأكيد على معنى آخر من معاني الأخوة ...كان واضحا في خطبة الوداع.. وهو أن هذه الأخوة ليست خاصة بعرق معين.. أو نسب معين.. أو عنصر معين.. أو قبيلة.. أو دولة.. أو طائفة.. إنها المساواة بين المسلمين جميعا من كل الأصول..
قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ..
"يا ايها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ألا لا فضلٍ لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى"
الله أكبر...!
هل في العالم مثل ذلك؟!
مهما تشدق المتشدقون.. ومهما تكلم المتكلمون.. ومهما حاولوا التجميل والتزيّن.. تبقى الحقيقة التي لا يمكن إنكارها... وهو أن الطبقية ما زالت متفشية في كل أركان الأرض تقريبا..
ومهما سُنت القوانين المانعة لذلك في أمريكا.. وفي فرنسا.. وفي إنجلترا.. وفي روسيا.. وفي ألمانيا.. وفي كل مكان.. الأبيض أبيض.. والأسود أسود... الغني غني.. والفقير فقير.. العنصر والجنس والطائفة ...علامات مميزة لا مهرب منها...
أما الأمة الإسلامية... فهي خليط عجيب من شتى أجناس وعناصر الأرض.. إنها الأمة الوحيدة التي تجتمع على عقيدة.. وهذا من أهم أسباب نصرها...
ويوم تستبدل الأمة الإسلامية هذه العقيدة السليمة الرابطة بينها بقومية معينة.. أو عنصرية خاصة ... تسقط الأمة الإسلامية لا محالة....
لقد فتحت الدولة الإسلامية (فارس)... فما مرت شهور قلائل... أو سنوات على الأكثر.. إلا وأصبح الفرس من المسلمين.. لهم ما لهم... وعليهم ما عليهم.. ذابوا ذوبانا طبيعيا تماما في المجتمع المسلم.. وما شعروا بأي غربة عن المسلمين من الأصول العربية.. وخرج منهم البخاري.. ومسلم.. والترمذي.. والنسائي.. وابن ماجه.. والبيهقي.. وغيرهم.... وغيرهم..
هذه هي عظمة الإسلام .. التي أكد عليها الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) في حجة الوداع...
ولقد ضل قوم قصروا هذه الوحدة على العرب دون غيرهم .. من منطلق القومية العربية.. أو على الأتراك دون غيرهم ...من منطلق القومية التركية... أو على البربر دون غيرهم ...من منطلق القومية البربرية.. أو على أي عنصر.. أو قبيلة.. أو دولة..
و لقد سمى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذلك جاهلية.. فقال فيما رواه أبو داود عن أبي هريرة..
"إن الله عز وجل أذهب عنكم عُبيّة الجاهلية وفخرها بالآباء مؤمن تقي وفاجر شقي أنتم بنو آدم وآدم من تراب ليدعنّ رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجِعلان التي تدفع بأنفها النتن"
ألا ما أجمل الإسلام...!
فهل حفظنا وصيته (صلى الله عليه وسلم) في الأخوة الإيمانية والإنسانية ؟!
.الظلم كارثة إنسانية... الظلم ظلمات يوم القيامة... الظلم مهلك للأمم في الدنيا مهما كانت قوية...
قال الله تعالى..
(وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ)
لقد كانت نصيحة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأمته بالعدل ...واضحة تمامَ الوضوح ..
"إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقون ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا"
فانظر كيف ينهى (صلى الله عليه وسلم) أمته ...عن التساهل في الدماء.. وعن التساهل في الأموال والممتلكات.. وانظر حالنا اليوم ... ولا حول ولا قوة إلا بالله ..
وصدق (ابن تيمية) رحمه الله حين قال ..
"الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة"
وقد حرص رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في هذه الخطب .. على ترسيخ معنى العدل في كل دوائر الحياة الإسلامية والمجتمع المسلم..
فليس العدل في إطار التعاملات الدولية... أو في إطار الحدود والحرب.. والقضايا الضخمة فقط... إنما العدل في كل الأطر حتى في إطار الأسرة الصغيرة.. ومع أقرب الأقربين لك.. لا يجوز لك أن تظلمه..
ومن هنا جاءت الوصية العظيمة بالنساء.. فالقوي المُمكَّن قد يغتر بقوته فيظلم الضعفاء.. فينقلب الرجل على زوجته.. أو ابنته.. أو أخته... فيظلمها في معاملة.. أو في ميراث.. أو إنفاق.. أو في غير ذلك من أمور... كما أن الوصية كذلك للنساء.. لا تظلموا أزواجكم بمنع حقهم.. فالله مطلع ومراقب... ويحصي أعمالكما معا..
فقال (صلى الله عليه وسلم) ...
"أيها الناس إن لكم على نسائكم حقا ولهن عليكم حقا"
ويوم يسعى كل طرف إلى الحفاظ على حق الطرف الآخر.. يومئذ تسعد الأسرة فعلا... ليس في الدنيا فقط... لكن في الآخرة أيضا..
فهل حفظنا وصيته (صلى الله عليه وسلم) في العدل ؟!
يحذر الرسول (صلى الله عليه وسلم) أمته من أمر مهلك آخر... شديد الخطورة.. وهو الذنوب..
ويذكر لهم (صلى الله عليه وسلم) أن الشيطان قد يئس من أن يعبده الناس.. لكنه مع ذلك لم ييأس من إضلالهم.. وسيكون ذلك عن طريق الذنوب.. بل عن طريق الذنوب الصغيرة التي يحتقرها عامة الناس ...لصغرها في نظرهم
فقال (صلى الله عليه وسلم)..
"إن الشيطان قد يئس من أن يُعبد بأرضكم هذه أبدا ولكنه إن يُطع فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحتقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم"
والحرب بين الإنسان والشيطان أبدية...
فقد وعد الله الشيطان بالانتظار إلى يوم القيامة... ونبه الإنسان بوضوح..
(إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ)
والشيطان ما نسي مهمته قَط.. ومهمته باختصار هي إغواء أولاد (آدم) عليه السلام .. وقيادتهم إلى جهنم.. وبئس المهاد.. وهو يتتبع في ذلك طرقا شتى.. وأساليب مختلفة.. حتى لو كانت دفع الإنسان إلى ذنب صغير... فهذه خطوة ستتبع بعد ذلك بخطوات...
لذلك يقول الله تعالى ..
(وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)
والذنوب التي يدفعنا الشيطان إليها مهلكة.. وما أكثر ما ذكر ربنا ذلك في كتابه..
فقال سبحانه ..
(فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ)
(وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)
(فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)
(فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ)
(فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)
(فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ)
والآيات كثيرة في القرآن الكريم .. ويصعب إحصاؤها.. وهو كذلك كثير في السنة النبوية.. بل يشير إليه (صلى الله عليه وسلم) تصريحا .. بأن الذنوب التي يستحقرها الإنسان لصغرها في نظره.. قد تكون مهلكة له.. كما روى الإمام أحمد ..
"إياكم ومحقّرات الذنوب.. فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنّه"
وهكذا جاءت هذه الوصية الخالدة.. لتحذر المسلم من عدوه الأكبر... الشيطان.. ومن الذنوب جميعا كبيرها وصغيرها... عظيمها وحقيرها..
فلعلك لا تنظر أبدا إلى صغر الذنب.. لكن عليك أن تنظر لعظم من عصيت ..
فهل حفظنا وصيته (صلى الله عليه وسلم) في دوام الاستغفار والتوبة المتجددة ؟!
من كل الذنوب التي من الممكن أن ترتكب... يختار (صلى الله عليه وسلم) ذنبا خطيرا على الأفراد.. وخطيرا على الأمم ليحذر منه.. وهو ذنب الربا..
فقال (صلى الله عليه وسلم) .. في حجة الوداع..
"و ربا الجاهلية موضوع"
فالدولة التي يقوم اقتصادها على الربا.. هي دولة في حرب مع الله ورسوله..
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ)
وليس لأحد بحرب الله طاقة.. فالله يسلط من يشاء من جنوده ...على من يشاء من عباده..
ولا يدري العبد من أين تأتيه الكارثة..!
فقد تكون زلزالا..!
وقد تكون طوفانا .. !
وقد تكون بركانا .. !
وقد تكون جرادا..!
وقد تكون وباء ..!
وقد تكون غرقا لسفينة...!
وقد تكون حرقا لقطار...!
وقد تكون هبوطا للعملة..!
وقد تكون اختلاسا للمليارات...!
وقد تكون فشلا لمشروع زراعي...!
وقد تكون تسليط عدو .. !
فهل حفظنا وصيته (صلى الله عليه وسلم) في الابتعاد عن الربا وشبهاته حكاما وشعبا ؟!
حرص (صلى الله عليه وسلم) شخصيا على توضيح أمر لأمته في غاية الأهمية ..
فمهمة الرسول هي البلاغ... ليست مهمته هداية الناس.. فالهداية بيد الله.. لكن مهمته أن يصل بدعوته إلى الناس..
قال الله تعالى
(وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ)
وقال تعالى ..
(إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)
لذلك حرص الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن يقول أكثر من مرة في هذه الحجة العظيمة..
"ألا قد بلّغت .. اللهم فاشهد"
ثم أنه (صلى الله عليه وسلم) .. علّم المسلمين مهمتهم .. وذكرهم بها ..
"فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلّغٍ أوعى من سامع"
إنه الخير الذي لا ينقطع.. و كل من وصلت إليه معلومة فليحملها إلى غيره... وهكذا دوائر الخير متصلة... حتى تعلم الأرض بكاملها حلاوة الدين.. وعظمة الإسلام..
إنها الوسيلة البسيطة لنشر الدعوة.. وتعليم الناس الدين..
ليس هناك داعية بعينه يوكل إليه ذلك الأمر.. بل هو موكَّل إلى كل المسلمين.. فكل المسلمين دعاة إلى الله.. كما قال (صلى الله عليه وسلم) .. "بلّغوا عني ولو آية"
لذلك ..
"فليبلّغ الشاهد الغائب"
أيا كان علم هذا الشاهد أو فقهه... فليحمل علمه إلى غيره...
ولقد فقه الصحابة ذلك .. فطاروا بعلمهم إلى الآفاق..
إنها مهمة و واجب...وليست تفضلا أو منّة..
يقول (ربعي بن عامر) .. لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد ...من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.. ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.. ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة...
وماذا كان سيحدث .. لو وقفت الدعوة عند (الصديق)... أو وقفت عند (عمر)... أو وقفت عند الصحابة جميعا ؟!
ماذا كان سيحدث لو تقاعس خالد والقعقاع وعمرو بن العاص والنعمان بن مقرن .. وسعد بن أبي وقاص وموسى بن نصير ومحمد بن القاسم وغيرهم .. إلى تبليغ أهل الأرض رسالة ربهم؟
ألن تكون النتيجة هي بقاء من يعبد النار على عبادته.. وبقاء من يعبد الحجر والشجر والنجم على هذا الضلال؟!
ألن تكون النتيجة هي بقاء القهر والظلم والإباحية والجهل والفساد؟
إن الذين فقهوا مهمتهم في الأرض ....هم الذين تحركوا.. وعلى أيديهم تحقق الخير للأرض بكاملها... ووصل الدين إلينا... فجزاهم الله عن الإسلام خيرا...
لكن ..
ألم يسأل واحد منا نفسه... ماذا فعلتُ أنا فيما وصل إليّ من علم ودين وفقه ؟
فإن ما تعرفه من آيات وأحكام.. وتظنه بسيطا.. هو بالنسبة لآخرين كنز من الكنوز لا يحلم به... ولا يتخيله...
فمن الناس من لا يتقن وضوءا ولا صلاة...
ومن الناس من لا يذكر الله إلا قليلا...
ومن الناس من لا يحسن قراءة القرآن...
ومن الناس من لا يبر والديه...
ومن الناس من لا يصل رحمه...
بل من الناس من لا يعرف الإسلام أصلا...
فهل تظن أن الملايين في الأرض الذين يكرهون الإسلام ويحاربونه ...يعرفونه ؟!
أم أن كل قضيتهم أنهم سمعوا عن الإسلام من وسائل إعلام مُغرضة.. ومن نفسيات منحرفة.. ومن مزورين محترفين.. ولم يسمعوه من مسلم محب لدينه.. فاهم لمهمته... حريص عليها ؟!
فهل تعلم أن في العالم أكثر من مليار مُلحد ينكر وجود الإله أصلا ؟!
وهل تعلم أن في العالم أكثر من مليار يعبدون البقر من دون الله ؟!
وهل تعلم أن في العالم أكثر من مليار يعبدون البشر من دون الله ؟!
وهل تعلم أن في العالم أكثر من مليار يعبدون الحجر والشجر والنجوم والكواكب ؟!
فأين المسلمين ؟!
"فليبلّغ الشاهد الغائب .. فربّ مبلّغٍ أوعى من سامع"
ألم يكن البخاري أوعى من مبلغه ؟
لكن ما كان للبخاري أن يعي ...لولا أن بلغه أشياخه الذين قد لا يعرفهم عامة المسلمين.
البلاغ... البلاغ ...
مهمة المسلمين في الأرض أفرادا وشعوبا.. وحكاما ومحكومين.. وعلماء ومتعلمين.. كل يبلغ بحسب طاقته وعلمه... وكل مُيَسر لما خُلق له..
فهل حفظنا وصيته (صلى الله عليه وسلم) في التبليغ ؟!
فعلى الرغم من أنه قام (صلى الله عليه وسلم) بالمناسك بترتيب معين..
وعلى الرغم من تكراره لكلمة ..."خذوا عني مناسككم"..
إلا أنه أقر بمبدأ التيسير في الدين..
فقال (صلى الله عليه وسلم) لكل من سأله في يوم النحر..
"افعل ولا حرج .. افعل ولا حرج"
وليت المسلمين يفقهون طبيعة هذا الدين... إن طبيعته الحقيقية هي اليسر..
أو كما قال (صلى الله عليه وسلم) .. "إن هذا الدين يُسر .. ولن يُشاد الدين أحد إلا غلبه"
وليس هناك أعبد من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ...
ولا أحرص منه (صلى الله عليه وسلم) على قواعد الشريعة..
ولا أرغب منه (صلى الله عليه وسلم) في العبادة..
لكنه الفقه العميق الذي يجمع ولا يفرق.. والذي ييسر ولا يعسر..
فكل قواعد الدين يسر.. وكلها في استطاعة العوام من الناس..
ولم يأتِ الدين كما يعتقد بعض الجُهّال.. لخواص الخواص.. بل جاء لعموم البشر.. جاء لقويهم وضعيفهم.. وجاء للبلغاء والخطباء.. وجاء للعوام البسطاء.. وجاء لـ (أبي بكر) .. ولـ (عمر) .. وجاء لنا ولمن هم من دوننا..
والذي يخرج بالدين الإسلامي عن هذه الطبيعة ... يُنفر الناس.. وهو يحسب أنه يرشدهم.. ويقصيهم عن طريق الله ...وهو يظن أنه يدعوهم إليه..
وليس هناك منهج في الدعوة ...أعدل من منهج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ..
فهل حفظنا وصيته (صلى الله عليه وسلم) في تيسير الدين .. أم شددنا حتى شدد الله علينا؟!
قال (صلى الله عليه وسلم) في خطبة الوداع ..
"اسمعوا واطيعوا .. وإن أمّر عليكم عبدٌ حبشي ما أقام فيكم كتاب الله"
وهذه وصية فذة من رسول الله (صلى الله عليه وسلم).. وهي وصية عجيبة بالنسبة للمجتمع العربي آنذاك... بل هي وصية عجيبة حتى بمجتمعنا الآن..
وليس العجيب في الوصية هو السمع والطاعة.. فكل المجتمعات على اختلاف توجهاتها.. وقوانينها وتشريعاتها .. تؤمن بأن العمل الجماعي لا بد له من قائد.. وأن القائد لا قيمه لتوجيهاته أو أوامره ..إلا إذا كان هناك طاعة..
إذن .. كل الناس يؤمن بذلك.. لكن ليس كل الناس يقبل بإمارة العبيد.. أو بإمارة الفقراء.. أو بإمارة من لا نسب أصيل له..
فهذا القبول يحتاج إلى نفس خاصة..وإلى تربية معينة..
والرسول (صلى الله عليه وسلم) ..أكد هذا المعنى كثيرا في حياته.. فهو أولا ..زهّد الناس في الإمارة حتى جعلها تكليفا لا تشريفا.. ومسئولية لا عطية.. حتى أصبح عموم الأمة يخشى من الإمارة.. ولا يقبلها إلا مضطرا..
وقبل ذلك كان (صلى الله عليه وسلم) ...قد زَهّد الناس في الدنيا بكاملها.. ومن ثم ليس هناك معنى لتحمل مسئولية ضخمة .. لتحصيل جزء من دنيا لا قيمة لها..
ثم إنه (صلى الله عليه وسلم)... ساوى بين المسلمين.. فلم يعد هناك تفاضل بينهم بعنصر.. أو عرق.. أو نسب.. أو مال.. إنما صار التفاضل بالتقوى..
للدرجة التي .. قد يكون العبد الذي يُباع ويُشترى بها .. أتقى من الحُر الذي يشتري العبيد..!
إذن ..
كانت هذه تربية صعبة و دؤوبة ... جاهد فيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كثيرا..
ولا نقول أنها وجدت قبولا عند العموم بسهولة... بل استلزم الأمر تدريبات كثيرة.. ومحاورات.. ومجادلات متعددة..
ولقد طعن الناس في إمارة (زيد بن حارثة).. الذي كان عبدا يُباع ويشترى.. لكن الرسول (صلى الله عليه وسلم).. أصر على توليته عدة مرات على سرايا حربية مُهمة.. كان أهمها وأعظمها السرية الأخيرة في حياته.. وهي سرية مؤتة.. حيث لقي ربه شهيدا بعد كفاح مشرف.. وكان قد ولاه قبل ذلك إمارة المدينة في إحدى غزواته (صلى الله عليه وسلم)..
كل ذلك ليمهد (صلى الله عليه وسلم) المسلمين نفسيا .. إلى قبول ولاية أي مسلم ما دام يقيم فيهم حكم الله..
وهذه حكمة نبوية راقية.. وتشريع إسلامي محكم..
فلا شك أن الأمة قد تقاد في يوم من الأيام بإنسان ذي نسب بسيط.. أو عائلة ضعيفة.. أو قبيلة فقيرة.. فماذا يحدث في هذا الحالة؟
لو خرج عليه المسلمون ...ستكون فتنة في الأرض وفساد كبير.. فلا بد من طاعته حتى تستقيم حياة الناس.. وحياة الأمة..
لكن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ...حدد شرطا أساسيا لهذه الطاعة.. وهذا الشرط يوضح لنا غاية الحكم في الإسلام ووسيلته..
فقد علق (صلى الله عليه وسلم) الطاعة للأمير ...على قيامه بأمر الله في المسلمين..
"ما أقام فيكم كتاب الله"
فالأمة الإسلامية مهمتها تعبيد الناس لرب العالمين.. أو على الأقل ...دعوتهم إلى عبادة رب العالمين.. ولا يكون ذلك إلا بمنهج صحيح غير محرف..
ومهمة الحاكم الأولى ..هي أن يُحَكِّم شرع الله ..
(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ)
والأحكام المتعارضة مع شرع الله ..أحكام جاهلية.. يجب ألا تُتبع.. ولا سمع فيها.. ولا طاعة..
(أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)
والرسول (صلى الله عليه وسلم) عاهد الأنصار في بيعة العقبة الأولى ... على أن لا يعصونه في معروف..
مع أنه (صلى الله عليه وسلم).. يستحيل أن يأمرهم بشيء ليس فيه معروف .. لكنه ذكر هذه القاعدة... وهذا الشرط .. ليكون حكما يسري بعد ذلك على كل الحكام والمحكومين..
كما يقول (صلى الله عليه وسلم) في حديث رواه مسلم ..
"لا طاعة لمخلوق في معصية الله.. إنما الطاعة في المعروف"
ويخطب (أبو بكر) أول تسلُّمه للحكم فيقول.. أطيعوني ما أقمت فيكم كتاب الله.. فإن عصيته.. فلا طاعة لي عليكم...
فكل هذه الآيات... والأحاديث .. تثبت شيئا واحدا مهما.. بل في غاية الأهمية..
هو أنه ليس المهم من هو الذي يحكم... لكن المهم أن يحكم بكتاب الله... وبسنة نبيه (صلى الله عليه وسلم)..
فهل حفظنا وصيته (صلى الله عليه وسلم) في السمع والطاعة لولاة المسلمين ؟
| |
|
| |
المغربي المراقبون
عدد المساهمات : 1622 تاريخ التسجيل : 27/01/2014
| موضوع: رد: سيرة سيد الخلق الخميس 10 يوليو 2014, 05:54 | |
| لقد ضرب الرسول (صلى الله عليه وسلم) في خطبته التي ألقاها في حجة الوداع .. أروع الأمثلة في الشفافية في تطبيق القوانين...
لقد علمنا (صلى الله عليه وسلم) ...أن الحاكم واحد من الشعب.. لا فضل له عليه.. وأن الكل أمام القانون يتساوى.. وليس هناك ما يسمى بالحصانة ضد القانون.. أو عدم القدرة على المساءلة....
إن التفرقة بين الحاكم والمحكومين في القانون... لهي من أهم أسباب انهيار الأمم.. وهذا ولا شك... يورث الضغينة في قلوب الناس.. فيشعرون أن هذه تمثيلية مقيتة تعرض على الشعب.. يلعب فيها أقوام دور المعاقَب دوما.. وينجو فيها فريق آخر من العقاب دوما..
ولا شك أن ذلك يهز قيمة القانون.. ويضعف تماما من سلطانه.. و يؤدي إلى هلاك الأمة..
ولو نتذكر قوله (صلى الله عليه وسلم) يوم فتحة مكة .. ويوم قطع يد المخزومية الشريفة التي سرقت..
حين قال (صلى الله عليه وسلم).. "إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه.. وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد"
لذلك .. نرى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يطبق القانون في حجة الوداع أول ما يطبق على نفسه.. وعلى أقاربه ورحمه وقبيلته...
فقال (صلى الله عليه وسلم)..
"ودماء الجاهلية موضوعة"
فترك الثأر الذي حدث في الجاهلية ...أصبح أمرا واجبا لازما للمسلمين...
ثم قال (صلى الله عليه وسلم) ..
" وإن أول دم أضع من دمائنا .. دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب"
وهو ابن عم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)... وكان مسترضعا في بني سعد.. فقتلته هذيل.. فهو قتيل لبني عبد المطلب ... وها هو رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يتنازل عن دمه.. والجميع يعلم أهمية الثأر في تلك البيئة العربية القبلية... لكن تطبيق القانون على النفس أولاً ...يشجع الناس على تطبيقه.. وعلى التفاني في عدم مخالفته..
ثم قال (صلى الله عليه وسلم) ..
"وربا الجاهلية موضوع.. وأول ربا أضع ربانا.. ربا عباس بن عبد المطلب.. فإنه موضوعٌ كله"
فهل في العالم مثل ذلك العدل؟!
إن قانون الربا كان ساريا أيام الجاهلية.. وكان ساريا فترة من الزمان في أول الإسلام.. وتعامل به (العباس) عم النبي (صلى الله عليه وسلم).. وتعامل به الناس عن رضا مع (العباس).. وهو يمثل ثروة طائلة للـ (العباس) .. ولقبيلة بني هاشم..
ومع ذلك فقد نزل القانون الذي يجرم الربا.. ويمنع السابق منه واللاحق.. فليطبق القانون بدقة.. وليكن أول تطبيقه على عم الرسول (العباس).. لتترسخ القاعدة في أذهان الناس..
لا فضل لحاكم على محكوم.. ولا لغني على فقير.. الكل سواسية حقيقة لا مجازا.. وواقعا لا خيالا...أمام القانون.
هذا هو الإٍسلام... يحكم حياة الناس في الأرض بقوانين السماء... فهل هناك ما هو أعدل من ذلك؟!
فهل حفظنا وصيته (صلى الله عليه وسلم) في تقديم الناس للقانون دون موانع ؟!
إن مهمة الدولة الإسلامية ليست توفير سبل المعاش للسكان... ومحاولة قضاء حوائجهم.. وإطعامهم وإسكانهم وتعليمهم وعلاجهم وترفيههم فقط.. وإن كانت هذه الأمور في منتهى الأهمية..
وإنما مهمتها قبل كل ذلك ... الحرص كل الحرص على آخرة الشعب.. ومصيره يوم القيامة..!
صحيح أن كل نفس بما كسبت رهينة .. لكن مهمة الدولة الإسلامية ....أن توفر لشعبها الظروف الملائمة.. والأوضاع المناسبة التي تقودها إلى عمل صالح.. وإلى جنة واسعة..
قال (صلى الله عليه وسلم) في حجة الوداع..
"وإنكم ستلقون ربكم .. فيسألكم عن أعمالكم .. وقد بلّغت.."
فالدولة العلمانية لا تنظر مطلقا إلى هذه النقطة.. فليذهب الشعب إلى الجحيم إن أراد ذلك... المهم أن يستقيم في الدنيا...!
والدولة الإسلامية لا تنظر للشعب هذه النظرة الآنية السطحية التافهة... لإن من وظيفتها الأولى أن تسعى سعيا حثيثا لهداية الناس إلى رب العالمين.. فإذا كان من أدوارها أن تدعو غير المسلمين إلى الإسلام.. وإلى النجاة في الدنيا والآخرة.. أفلا يكون ذلك من أدوارها تجاه شعبها؟!
إن هذا الدور كان من أَجلّ وأهم أدوار الرسول (صلى الله عليه وسلم).. بصفته مسئولا عن شعبه المسلم..
كما قال (صلى الله عليه وسلم) في حديث ذكره الألباني في الاحاديث الصحيحة ..
"إني ممسلكُ بِحُجزكم عن النار.. وتقاحمون فيها تقاحم الفراش والجنادب.. ويوشك أن أرسل حُجزكم .. وأنا فرطٌ لكم على الحوض.. فتردون علي معا وأشتاتا.. فأعرفكم بأسمائكم وبسيماكم كما يعرف الرجل الغريب من الإبل في إبله.. فيُذهب بكم ذات الشمال .. ! وأناشد فيكم رب العالمين.. فأقول: يارب .. أمتي.. فيقال: إنك لاتدري ما أحدثوا بعدك .. إنهم كانوا يمشون القهقرى بعدك.. فلا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثعاء ينادي: يامحمد.. فأقول: لا أملك لك من الله شيئا.. قد بلّغت .. ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل بعيرا له رعاء ينادي : يامحمد يامحمد .. فأقول: لا أملك لك من الله شيئا .. قد بلّغت.."
وكان (صلى الله عليه وسلم) يحزن .. إذا مات يهودي أو نصراني دون أن يسلم.. لأنه يعلم أن عواقب ذلك في الآخرة وخيمة...
وقد روى البخاري عن عبد الرحمن بن أبي ليلى .. قال: كان سهل بن حنيف وقيس بن سعد قاعدين بالقادسية.. فمروا عليهما بجنازة.. فقاما.. فقيل لهما: إنها من أهل الأرض... (أي من أهل الذمة).. فقال: إن النبي (صلى الله عليه وسلم) مرت به جنازة.. فقام.. فقيل له: إنها جنازة يهودي... فقال (صلى الله عليه وسلم) .. "أليست نفسا؟!"..
وكم نرى في زماننا من الحكام والدول ...من لا يذكر الله أبدا في كلامه.. ولا يُذكّر الناس بيوم القيامة.. ولا بحسابهم أمام الله.. وكأن هذه تقاليد بالية.. لا يتكلم عنها إلا بعض المشايخ في المساجد... ولا حول ولا قوة إلا بالله...
فهل حفظنا وصيته (صلى الله عليه وسلم) في مراقبة الله لأعمالنا وأقوالنا قادة وشعوب ؟! | |
|
| |
المغربي المراقبون
عدد المساهمات : 1622 تاريخ التسجيل : 27/01/2014
| موضوع: رد: سيرة سيد الخلق الخميس 10 يوليو 2014, 05:55 | |
| العودة إلى المدينة وتجهيز جيش أسامة
عاد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة بعد هذا الحج العظيم.. فمكث فيها بقية ذي الحجة.. والمحرم.. وصفر من سنة 11هـ..
وفي شهر صفر .. بدأ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في إعداد بَعث حربي جديد للشام لقتال الروم.. وذلك أن الروم قتلوا والي (مَعان) عندما أسلم.. فكان لا بد من رد حاسم..
وهذا هو الإعداد الثالث لمجابهة الدولة الرومانية العظمى.. وكان الأول هو مؤتة.. والثاني هو تبوك.. وهذا البعث الجديد كان الثالث..
وقد أَمَّر (صلى الله عليه وسلم) عليه (أسامة بن زيد بن حارثة).. ليرسخ المعنى نفسَه الذي أشرنا إليه عند التعليق على حجة الوداع..
ومع ذلك .. لم يكن كل المسلمين مستعدين نفسيا لقبول ولاية (أسامة بن زيد).. وخاصة أنه كان شابا لم يتجاوز الـ 18 من العمر ..
لكن الرسول أصر على ولايته للجيش..
وقال (صلى الله عليه وسلم) .. للناس.. "إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل.. والله إنه كان خليقا للإمارة.."
ويلفت الرسول (صلى الله عليه وسلم) بهذه الولاية ...إلى أمرين في غاية الأهمية..
أما الأمر الأول ...فهو ليس من المهم من هو القائد ولا نسبه.. ولا عمره.. لكن المهم كفاءته.. وأنه يحتكم في كل أموره إلى كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وسلم)..
وأما الأمر الثاني ...فهو أن طاقات الشباب هائلة.. وأكثر بكثير من تخيلنا... أو من تخيل الشباب أنفسهم..
كما أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) بأي حال من الأحوال لا يضيّع جيشه.. ولا يخاطر بمصير أمته بزعامة لا تتصف بالكفاءة.. وبخاصة أن الصراع القادم سيكون مع أعتى قوة في الأرض في زمانهم.. وما لم يكن (صلى الله عليه وسلم) موقنا تمام اليقين ..بأن (أسامة بن زيد) أهلٌ لهذه المهمة ... ما كان ولاه..
لا سيما أن الجيش كان يضم تحت إمرة (أسامة) ... مجموعة فذة من القادة العسكريين.. ومن السابقين الأولين.. بل يكفي أن من جنود (أسامة) في هذا الجيش (أبا بكر وعمر) .. رضي الله عنهما.. وهذا تقدير لا يخفى على أحد .. لقيمة وإمكانيات الشباب في عين رسول الله (صلى الله عليه وسلم).. | |
|
| |
المغربي المراقبون
عدد المساهمات : 1622 تاريخ التسجيل : 27/01/2014
| موضوع: رد: سيرة سيد الخلق الخميس 10 يوليو 2014, 05:55 | |
| مع النبي قبيل الوفاة
جُهز بالفعل جيش (أسامة).. وخرج من المدينة المنورة في اتجاه الشام ...في أواخر شهر صفر سنة 11هـ..
لكن بمجرد خروجه.. وعلى بُعد 5 أميال من المدينة .. سمع الجيش بمرض رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ... فانتظروا مكانهم.. ولم يكملوا الطريق.. وذلك للاطمئنان على صحة الحبيب (صلى الله عليه وسلم)...
وبدأ مرض الرسول (صلى الله عليه وسلم) .. ولم يكن يعلم المسلمين أن نهاية مرضه (صلى الله عليه وسلم) .. هو الوفاة ..
ولا شك أنه صعب جدا على النفس ... أن تتخيل موت رسول الله (صلى الله عليه وسلم)... وسبحان الذي ثبت أصحابه في هذه الفاجعة...!
فنحن وبعد مرور أكثر من 1400 سنة على موته... لا نستطيع أن نتمالك أنفسنا عند سماع أو قراءة قصة وفاة الحبيب (صلى الله عليه وسلم).. فكيف ثبتهم الله حينها ؟!!
لقد كانت بلا مبالغة... أكبر مصيبة.. وأعظم كارثة في تاريخ الأرض منذ خلقها الله وإلى يوم القيامة..
ومع كون وفاة الأنبياء بصفة عامة ...مصيبة كبيرة على أقوامهم.. إلا أن مصيبة وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم).. كانت أعظم وأجلّ..
ليس ذلك لكونه (صلى الله عليه وسلم) أعظم الأنبياء وسيد المرسلين فقط.. لكن كانت المصيبة الكبرى هي انقطاع الوحي بعد وفاته (صلى الله عليه وسلم).. انقطاعا أبديا إلى يوم القيامة... وهذه فعلا... كانت مصيبة متفردة ليست ككل المصائب.. حتى إن الصحابة الذين صبروا وثبتوا .. لكن عندما ذُكّروا بهذه المصيبة ...تهيجت نفوسهم للبكاء.. وأدركوا فداحة الأزمة..
ومن ذلك ما حدث مع (أبي بكر وعمر) .. عندما زارا (أم أيمن) .. بعد وفاته (صلى الله عليه وسلم).. فوجداها في ألم شديد... وبكاء مرا.. فصبّراها بأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الآن في حال أحسن وأجمل وأعظم.. وفي مقعد صدق عند مليك مقتدر.. فأخبرتهما السيدة (أم أيمن) ....بأن مصابها الفادح ليس في مفارقته (صلى الله عليه وسلم).. لكن في أن الوحي انقطع عن الأرض وإلى يوم القيامة.. فهيجتهما على البكاء... فجلس الجميع يبكون... | |
|
| |
المغربي المراقبون
عدد المساهمات : 1622 تاريخ التسجيل : 27/01/2014
| موضوع: رد: سيرة سيد الخلق الخميس 10 يوليو 2014, 05:59 | |
| تمهيد لمصيبة موت الرسول
الله سبحانه من رحمته بعباده المؤمنين .. مهّدهم نفسيا لمثل هذه المصيبة التي تقصم الظهر... وتهدّ الجبال.. فذكر لهم في أكثر من موضع في كتابه .. أن البشر جميعا يموتون.. وهذا يشمل الأنبياء وغير الأنبياء.
فقال تعالى..
(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)
وقال ..
(لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ)
ثم خص سبحانه الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالذكر.. وصرح أن الوفاة ستحدث معه كما تحدث مع عامة الخلق..
فقال تعالى ..
(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)
وقال أيضا ..
(وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ)
ولاحظ أن هذه الآيات مكية.. أي أن التمهيد كان مبكرا جدا.. لئلا تكون صدمة المسلمين هائلة... فيفقدون صوابهم وحكمتهم....
ثم جاء تمهيد آخر كبير في غزوة أُحد .. عندما أشيع أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم).. قد قتل.. وتباينت ردود أفعال المسلمين إزاء هذه الإشاعة المريعة.. وثبت بعضهم.. واهتز آخرون.. وسقط فريق ثالث محبط..
فنزل القرآن الكريم يعلق على الأمر..
(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِين)
فمصيبة موت الرسول(صلى الله عليه وسلم) إذن متوقعة..
وقد أخفى الله سبحانه سبب الوفاة .. حين قال ..
(أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ)
فقد يكون موتا طبيعيا.. وقد يكون قتلا في معركة أو في غيرها.. وذلك ليظل المسلمون في ترقب دائم.. لئلاّ تكون المفاجأة قاسية عليهم...
ثم كانت الأحداث التي تمت في الشهر الأخير من عمره (صلى الله عليه وسلم).. وكلها تشير إلى اقتراب أجله (صلى الله عليه وسلم)..
وما أكثر ما قال .. "لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا"
وحجة الوداع كانت تفيض بالمواقف الوداعية للأمة...
مع نزول آية ..
(اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)
فقد كانت إشارة جلية إلى قرب الوفاة..
ثم نزول سورة النصر التي قال في حقها (ابن عباس).. "أجلٌ أو مثلٌ ضُرب لمحمد (صلى الله عليه وسلم).. نُعيت له نفسه.."
لذلك .. كان كثير من المسلمين يتوقع ذلك الأمر.. لكن لم يجرؤ واحد منهم أن يواجه نفسه بصراحه في هذا الصدد.. بل كان الجميع ينكر بقلبه ...ما يوقن تماما بعقله أنه سيحدث...
لقد حرص (صلى الله عليه وسلم) على توديع الجميع... حتى إنه لم يودع الأحياء فقط.. بل ودع الأموات أيضا..
فلقد خرج (صلى الله عليه وسلم) في أوائل شهر صفر سنة 10هـ إلى أُحُد.. فصلى على الشهداء و ودعهم... !
إذ روى البخاري عن (عقبة بن عامر) .. أن النبي (صلى الله عليه وسلم) خرج يوما فصل على أهل أحد صلاته على الميت .. ثم انصرف إلى المنبر فقال ..
"إني فرطَكُم.. وأنا شهيدٌ عليكم .. إني والله لأنظر إلى حوضي الآن.. وإني قد أعطيتُ خزائن مفاتيح الأرض.. وإني والله ما أخاف بعدي أن تشركوا.. ولكن أخاف أن تنافسوا فيها"
صلوات ربي وسلامه عليك يا حبيبي يارسول الله ...
وفي آخر نفس الشهر ... خرج (صلى الله عليه وسلم) لأهل البقيع... حيث يدفن الموتى من أهل المدينة المنورة...
حيث يروي (أبو مويهبة) في مسند أحمد وسنن الدارمي ..
أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال له .. "يا أبا مويهبة.. إني قد أمرتُ أن استغفر لأهل البقيع.. فانطلق معي..."
يقول (أبو مويهبة)... فانطلقتُ معه... فلما وقف (صلى الله عليه وسلم) بين أظهرهم..
قال (صلى الله عليه وسلم) .. "السلام عليكم يا أهل المقابر .. ليهن لكم ما أصحبتم فيه مما أصبح فيه الناس.. لو تعلمون ما نجّاكم الله منه...! أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم .. يتبع أولها آخرها .. الآخرة شرٌ من الأولى"..
يقول (أبو مويهبة)... ثم أقبل علي (صلى الله عليه وسلم) فقال ..
"يا أبا مويهبة .. إني قد أوتيتُ مفاتيح خزائن الدنيا .. والخلد َ فيها ثم الجنة .. وخُيّرتُ بين ذلك وبين لقاء ربي عز وجل والجنة .. "
فقال (أبو مويهبة) .. بأبي وأمي .. فخذ مفاتيح الدنيا والخلد فيها.. ثم الجنة ..
قال (صلى الله عليه وسلم) .. "لا والله يا أبا مويهبة.. لقد اخترتُ ربي عز وجل والجنة....."
ثم استغفر (صلى الله عليه وسلم) لأهل البقيع .. وبشّرهم بقوله .. "إنّا بكم لاحقون"
ثم انصرف إلى بيته (صلى الله عليه وسلم)... بدأ المرض الذي مات فيه ... وقد أصابه صداع في رأسه... ثم ارتفعت درجة حرارته (صلى الله عليه وسلم)... فربط (صلى الله عليه وسلم) عصابة على رأسه..
ومن شدة الحرارة ...كان الصحابة يشعرون بهذه الحرارة من فوق العصابة.. لقد كان مرضا شديدا حقا...
و يروي الإمام أحمد وابن ماجه عن (عائشة).. أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عاد ذات يوم من جنازة بالبقيع... وكانت السيدة (عائشة).. تشعر هي الأخرى بصداع في رأسها..
فقالت عندما رأت الرسول (صلى الله عليه وسلم).. وارأساه...
فقال (صلى الله عليه وسلم).. "بل أنا وارأساه"
ولعلها المرة الأولى في حياته ...التي لا يلتفت (صلى الله عليه وسلم) لمرضها.. وذلك لشدة مرضه هو (صلى الله عليه وسلم).. كانت هذه هي البداية..
ثم قال (صلى الله عليه وسلم) وهو يلاطفها .. "ما ضركِ لو متِ قبلي .. فغسّلتك ِ .. ولقّنتك ِ .. ثم صليتُ عليك ودفنتك ِ .. "
أي أنه لو حدث ومتِ قبلي... فإن هذا خير لك.. لأنني سأصلي عليك وأستغفر لك..
لكن السيدة (عائشة) كانت مشغولة بشيء آخر...لقد قالت... "لكأني بك والله لو فعلتَ ذلك.. لقد رجعتَ إلى بيتي... فأعرستُ فيه ببعض نسائك..."
لقد كانت تمزح رضي الله عنها.. وما تدرك أن هذا مرض وفاة الحبيب (صلى الله عليه وسلم)..
وأخذ الرسول (صلى الله عليه وسلم) الموضوع ببساطة... وتبسم من مزاحها وغيرتها.. ثم بُدِئ بوجعه الذي مات فيه...
مع مرور الوقت ... اشتد المرض برسول الله (صلى الله عليه وسلم)... وكان كعادته (صلى الله عليه وسلم) ينتقل كل يوم ...من بيت زوجة إلى أخرى بحسب دورهن..
لكنه مع اشتداد المرض .. أصبح من الصعب عليه (صلى الله عليه وسلم) أن يتنقل بين الحجرات.. فأراد (صلى الله عليه وسلم) أن يستقر في بيت إحداهن ... إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا..
فرغب (صلى الله عليه وسلم) أن يستقر في بيت أحبّ زوجاته إلى قلبه.. وهي (عائشة بنت الصديق)..
فكان (صلى الله عليه وسلم) يقول.. "أين أنا غدا؟ أين أنا غدا؟"
استبطاء ليوم (عائشة).. رضي الله عنها.. لكنه (صلى الله عليه وسلم) استحى أن يطلب ذلك من زوجاته ...لئلا يكسر نفوسهن..
حتى جاء يوم (عائشة)... فسكن (صلى الله عليه وسلم).. ومن أدبهن وحبهن له (رضي الله عنهن) .. أَذِنَّ له (صلى الله عليه وسلم) بالبقاء حيث يحب..
فخرج (صلى الله عليه وسلم) في اليوم الخامس من ربيع الأول ...إلى بيت (عائشة).. وهو لا يقْوى على السير..
فكان (صلى الله عليه وسلم) يتحامل على (الفضل بن العباس).. و (علي بن أبي طالب).. وكانت قدماه (صلى الله عليه وسلم) تخط في الأرض ...لا يقوى على المشي.. وهو عاصب رأسه (صلى الله عليه وسلم)... فقضى هذا الأسبوع الأخير من حياته كلها ...في بيت (عائشة)..
وكانت (عائشة) ... تطببه في بيتها..
ففي صحيح البخاري تقول (عائشة) رضي الله عنها .. كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا اشتكى .. نفث على نفسه بالمعوذات... ومسح عنه بيده... فلما اشتكى وجعه الذي تُوُفِّي فيه.. طفقت أنفث على نفسه بالمعوذات التي كان ينفث.. وأمسح بيد النبي (صلى الله عليه وسلم)..
لأنه (صلى الله عليه وسلم) كان لا يستطيع أن يفعل ذلك بنفسه..
لقد كان إذن .. مرضا شديدا للغاية.. وكان (صلى الله عليه وسلم) لا يقوى على الحركة... وبالكاد يتكلم..
تقول (عائشة) رضي الله عنها .. ما رأيت رجلا أشد عليه الوجع من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)...
وروى البخاري ومسلم عن (عبد الله بن مسعود).. قال: دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وسلم).. وهو يوعك وعكا شديدا.. فمسسته بيدي..
فقلت: يا رسول الله.. إنك لتوعك وعكا شديدا..
فقال (صلى الله عليه وسلم).. : "أجل .. إني أوعك كما يوعك رجلان منكم"
فقلت.. ذلك أن لك أجرين؟
فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم).. "أجل"
ثم قال (صلى الله عليه وسلم).. "ما من مسلم يصيبه أذى من مرضه فيما سواه .. إلا حطّ الله سيئاته .. كما تحط الشجرة أوراقها..."
والرسول (صلى الله عليه وسلم) قد غَفَر الله له ما تَقَدّم من ذنبه وما تأخر.. لكن هذه المعاناة والألم لرفع الدرجات... والوصول إلى ما لم يصل إليه مرسل ولا ملك مقرب...
في يوم الأربعاء 7 ربيع أول... قبل الوفاة بـ 5 أيام.. ارتفعت درجة حرارة الرسول (صلى الله عليه وسلم) جدا.. واشتد ألمه حتى أغمي عليه (صلى الله عليه وسلم)..
فلما أفاق (صلى الله عليه وسلم).. أراد أن يخرج إلى المسلمين حتى يوصيهم.. فما استطاع أن يتحرك..
فقال (صلى الله عليه وسلم) لأهله.. "هريقوا علي سبع قرب من آبار شتى .. حتى أخرج إلى الناس.. فأعهد إليهم"
وإنما أمر (صلى الله عليه وسلم) بذلك للتداوي ولخفض الحرارة.. فأجلسوه في مخضب (إناء لغسل الثياب) وصبوا عليه الماء..
واستمروا في ذلك ..حتى طفق (صلى الله عليه وسلم) يقول "حسبُكم ... حسبُكم"
وعند ذلك شعر (صلى الله عليه وسلم) بالنشاط.. فقام إلى المسجد.. وهو معصوب الرأس.. وصعد المنبر... واجتمع الناس حوله ينتظرون ما يقول في هذه اللحظات الصعبة..
وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم).. حتى هذه اللحظة لا يمتنع عن مقابلة الناس.. ولا يمتنع عن الصلوات في المسجد مع شدة تعبه...
فخطب (صلى الله عليه وسلم) في الناس..
وقال (صلى الله عليه وسلم) ... "لعنة الله على اليهود والنصارى.. أتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"
وقال (صلى الله عليه وسلم) في رواية مالك عن عطاء بن يسار.. "اللهم لاتجعل قبري وثنا يُعبد"
إذن ..
لقد كانت إشارات شديدة الوضوح باقتراب أجله... وتحذير شديد الوضوح من الوقوع في أخطاء السابقين من الأمم..
وقد شاهد الجميع أن زيادة التقديس للأنبياء عن الحد المطلوب.. أدخل الناس في الكفر والشرك بالله.. وصار النصارى يعبدون المسيح (عليه السلام) من دون الله.. أو يجعلونه ابنا لله ...معاذ الله .. وكذلك فعل اليهود مع العُزَير...
فمع أن المدخل كان التعظيم لنبي ...إلا أن الخاتمة كانت كفرا بالله تعالى..
لذا .. يُحذّر رسولنا العظيم (صلى الله عليه وسلم) ... فلا يدفعكم توقيري وإجلالي وحبي ...إلى المبالغة التي تُخرج عن الملة...
ثم قال (صلى الله عليه وسلم) بعد ذلك كلاما عجيبا..
لقد عرّض نفسه (صلى الله عليه وسلم) للقصاص...!
فقال كما روى الطبراني في الأحاديث الطوال عن الفضل بن عباس..
"من كنتُ جلدتُ له ظهرا .. فهذا ظهري فليستقد منه.. ومن كنتُ شتمتُ له عرضا .. فهذا عرضي فليستقد منه.."
يقول ذلك (صلى الله عليه وسلم) ....وهو الذي لم يظلم في حياته قَطُ... بل كان دائم التنازل عن حقه (صلى الله عليه وسلم).. وما غضب لنفسه ابدا .. و لم يتلفظ بفحش.. ولا سوء.. ولا طعن.. حتى في أشد مواقف حياته صعوبة... (صلى الله عليه وسلم).. بعدها ..
نزل (صلى الله عليه وسلم) من على المنبر.. وكان وقت الظهر قد حان.. فصلى الظهر بالناس..
ثم صعد (صلى الله عليه وسلم) المنبر من جديد.. وعاد لعرض نفسه للقصاص...
ثم أصر (صلى الله عليه وسلم) على الناس ... أن يذكروا إن كان لهم حق عنده..
فقام رجل.. فقال... إن لي عندك ثلاثة دراهم...
فقال (صلى الله عليه وسلم) .. "اعطهِ يا فضل"..
فأعطاه....
ومع اليقين في أن الرجل لا يريد الدراهم الثلاثة... إلا أنه خشي إن كتم ذلك مع إصرار الرسول (صلى الله عليه وسلم)...أن تكون هذه معصية.. والرسول (صلى الله عليه وسلم) يريد أن يترك الدنيا... وليس عليه مثقال ذرة لأحد... | |
|
| |
المغربي المراقبون
عدد المساهمات : 1622 تاريخ التسجيل : 27/01/2014
| موضوع: رد: سيرة سيد الخلق الخميس 10 يوليو 2014, 06:02 | |
| الرسول يوصي بالأنصار
بدأ الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالوصاية بالأنصار..
فقال فيما رواه البخاري عن أنس بن مالك..
"أوصيكم بالأنصار .. فإنهم كرشي وعيبتي"
أي.. هم خاصتي وموضع سري..
ثم قال (صلى الله عليه وسلم).. "وقد قضوا الذين عليهم .. وبقي الذي لهم.. فاقبَلوا من محسنهم .. وتجاوزوا عن مسيئهم"
وقال (صلى الله عليه وسلم) في رواية أخرى في البخاري.. عن ابن عباس ..
"إن الناس يكثرون .. وتقل الأنصار .. حتى يكونوا كالملح في الطعام .. فمن ولي منكم أمرا يضر فيه أحدا أو ينفعه .. فليقبل من محسنهم .. ويتجاوز عن مسيئهم"
وقد أوصى بالأنصار (صلى الله عليه وسلم)... لأنه كما فسر يرى أن الأنصار تَقِل مع مرور الوقت... لكثرة العرب الذين يسلمون... وقد يهضم حقهم مع مرور الوقت.. وخاصة أن من طبيعة الأنصار الحياء والإيثار...
ثم قال (صلى الله عليه وسلم) بعد ذلك كلاما مؤثرا غاية التأثير..
كما روى البخاري عن أبي سعيد الخدري..
"إن عبدا خيّره الله أن يؤتيه زهرة الدنيا ما شاء.. وبين ماعنده .. فاختار ما عنده"
يقول (أبو سعيد) ... فبكى (أبو بكر) وقال فديناك فديناك بآبائنا وأمهاتنا..!!
قال أبو سعيد الخدري.. فعجبنا له (أي لأبي بكر)..
فقال الناس... انظروا إلى هذا الشيخ... يُخبر رسول الله عن عبد خيره الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده.. وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا..!
فلم يدرك عموم الصحابة ساعتها.. ولم يتخيلوا أن الرسول (صلى الله عليه وسلم)...هو العبد المقصود بالتخيير.. لكن (أبا بكر) بما له من حس مرهف... أدرك ذلك الأمر.. فبكى وقال ما قال ..
يقول (أبو سعيد الخدري)... فكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هو المخير.. وكان أبو بكر أعلمنا...
وبعد أن ذكر ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم).. أوصى وصية خاصة (بأبي بكر الصديق).. وفيها إشارات واضحة باستحباب خلافته بعد موت الرسول (صلى الله عليه وسلم)..
فقال (صلى الله عليه وسلم) .. "يا أبا بكر .. لاتبك ِ .. إن أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر .. ولو كنتُ متخذا خليلا لأتخذتُ أبا بكر خليلا .. ولكن أخوّة الإسلام ومودته.."
وهذه شهادة عظيمة حقا من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
ثم قال (صلى الله عليه وسلم).. "لايبقين في المسجد باب إلا سُدّ.. إلا باب أبي بكر"
وكأنها إشارة لخلافته رضي الله عنه .. لأنه سيخرج من بابه هذا للصلاة بالناس.. وإمامتهم ....كما كان يفعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
وهكذا انتهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من وصاياه المؤثرة.. وعاد إلى بيته... | |
|
| |
المغربي المراقبون
عدد المساهمات : 1622 تاريخ التسجيل : 27/01/2014
| موضوع: رد: سيرة سيد الخلق الخميس 10 يوليو 2014, 06:04 | |
| إلى الرفيق الأعلى
ثم جاء يوم الاثنين .. 12 من ربيع الأول سنة 11 هـ .. وهو اليوم الذي شهد أعظم مصيبة في تاريخ البشرية.. وأشد كارثة تعرض لها المسلمون.. هو اليوم الذي شهد وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم)...
يقول (أنس بن مالك) .. ما رأيت يوما قَط كان أحسن... ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم)... ما رأيت يوما كان أقبح ولا أظلم من يوم .. مات فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
وسبحان الذي ثبت الصحابة في ذلك اليوم..وشتان بين بداية هذا اليوم وبين نهايته..
فلقد صلى (أبو بكر) صلاة الصبح بالناس.. وكانت هذه هي الصلاة الـ 17 التي يصليها بالناس في وجوده (صلى الله عليه وسلم)..
لكن ..
في أثناء هذه الصلاة ... حدث أمر أسعد المسلمين كثيرا.. وعوضهم عن ألم الأيام السابقة التي مرض فيها الرسول (صلى الله عليه وسلم)..
يقول (أنس) .. حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة .. كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة فنظر إلينا وهو قائم .. كأن وجهه ورقة مصحف .. ثم تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكا .. قال فبهتنا ونحن في الصلاة من فرح بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف .. وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خارج للصلاة ... فأشار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده أن أتموا صلاتكم .. قال ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرخى الستر..
كأن وجهه ورقة مصحف... عبارة عن الجمال البارع وحسن البشرة وصفاء الوجه واستنارته.. ثم تبسم (صلى الله عليه وسلم) يضحك... سعيد برؤيتهم يصلون مجتمعين .. واتباعهم لإمامهم...، وإقامتهم شريعته ... واتفاق كلمتهم واجتماع قلوبهم..
تصوروا .. كاد المسلمون أن يخرجوا من الصلاة فرحا برؤيته (صلى الله عليه وسلم) ..!
ولما ارتقى الضحى من ذلك اليوم .. دعا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ابنته (فاطمة) ..
فلما رآها (صلى الله عليه وسلم) .. رحّب بها قائلا .. "مرحبا بابنتي"
وهي ابنته الوحيدة المتبقية على قيد الحياة.. فقد مات كل أولاده وكل بناته ...في حياته (صلى الله عليه وسلم)..
ثم أجلسها (صلى الله عليه وسلم) بجانبه .. ثم أسرّها أمرا .. فبكت بكاء شديدا .. !
فلما رأى حزنها .. سارَّها الثانية... فإذا هي تضحك...!
فقالت لها (عائشة) .. خصك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالسر من بيننا ..ثم أنت تبكين؟! عم سارَّكِ ؟
قالت (فاطمة) .. ما كنت لأفشي على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سره...
فلما توفي... قالت لها (عائشة) .. عزمتُ بما لي عليك من الحق لما أخبرتني..
قالت (فاطمة) .. أما الآن فنعم .. أما حين سارني في الأمر الأول... فإنه أخبرني أن جبريل كان يعارضه بالقرآن كل سنة مرة.. وإنه قد عارضه به العام مرتين.. ولا أرى الأجل إلا قد اقترب.. فاتقي الله واصبري.. فإني نعم السلف أنا لكِ.. فبكيت بكائي الذي رأيتِ.. فلما رأى جزعي سارني الثانية.. قال: يا فاطمة... ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين.. أو سيدة نساء هذه الأمة؟.. فضحكت ضحكي الذي رأيت...
وفي رواية أخرى للبخاري ومسلم .. أنه أسرها ...بأنها أول أهل بيته موتا بعده (صلى الله عليه وسلم)..
وقد أضحكها ذلك ... وكيف لا يضحكها ذلك .. وهي ستلقى الأحبة .. وستلقى أباها رسول الله (صلى الله عليه وسلم).. وتلقى أمها (خديجة)... رضي الله عنها.. وتلقى المؤمنين الذين سبقوا.. بل وتلقى رب العالمين
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)
ومع ذلك .. فـ (فاطمة) ...كانت تشاهد الألم والمعاناة التي يشعر بها أبوها (صلى الله عليه وسلم).. وذلك دفعها كما في رواية البخاري عن أنس ..
أن تقول .. وا كرب أباه ..
ليطمأنها (صلى الله عليه وسلم) .. "ليس على أبيك ِ كربٌ بعد اليوم"
وصدق رسول الله (صلى الله عليه وسلم)... فكيف يشعر بالكرب من رأى مقعده من الجنة.. وهو حي على وجه الأرض..!
وعموم المؤمنين يرون مقاعدهم من الجنة بعد أن يموتوا.. وذلك في قبورهم.. لكن الأنبياء يبشرون بذلك في دنياهم قبل موتهم..
كما روى البخاري ومسلم عن (عائشة) .. أنه (صلى الله عليه وسلم) قال ..
"إنه لم يُقبض نبيٌ حتى يرى مقعده من الجنة .. ثم يُخيّر"
أي يخير بين الموت ...وبين البقاء في الدنيا... وقد رأى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مقعده من الجنة.. وخُيّر بين الموت والحياة.. فاختار لقاء الله تعالى ..
وأخذ الألم يشتد برسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
فقال (صلى الله عليه وسلم) لـ (عائشة) .. "ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلتُ بخيبر"
ويقصد الشاة المسمومة التي أعدها له اليهود.. حين أخذ منها (صلى الله عليه وسلم) لقمة ثم لفظها ..
ثم قال (صلى الله عليه وسلم) لـ (عائشة) .. "فهذا أوانُ وجدتُ انقطاع أبهري من ذلك السم "
والأبهر هو عرق متصل بالقلب... إذا انقطع مات الإنسان... والرسول (صلى الله عليه وسلم) يُرجع مرضه وموته إلى أثر السم على عرق الأبهر.. ولا يستبعد أن يُبقِي اللهُ ألمَ السم وأثره في جسمه (صلى الله عليه وسلم) 3 سنوات وأكثر .. حتى يعطي رسولَه (صلى الله عليه وسلم) مع درجة النبوة ...درجة الشهادة...
واقتربت اللحظات الأخيرة من حياته (صلى الله عليه وسلم).. وهو يريد أن ينصح أمته حتى آخر أنفاسه..
كما يروي أحمد وابن ماجه عن (أنس) .. "الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم"
حتى جعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يغرغر بها صدره.. وما يكاد يفيض بها لسانه.. فهاتان وصيتان عظيمتان منه (صلى الله عليه وسلم) .. في وقت حرج للغاية.. فهو يوصي (صلى الله عليه وسلم) بالصلاة.. وكذلك يوصي بالرقيق والعبيد.. ويجمع بينهما لكي يؤكد على وجوب الإحسان إلى الرقيق...
وفي رواية أبي داود عن (علي) .. "الصلاة الصلاة .. أتقوا الله فيما ملكت أيمانكم"
ثم تقول (عائشة) .. دخل عبد الرحمن (ابن أبي بكر وهو أخوها)... وبيده السواك.. وأنا مسندة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)... فرأيته ينظر إليه.. وعرفت أنه يحب السواك.. فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم ( لأنه لا يقوى على الكلام ).. فتناولته فاشتد عليه (لم يستطع أن يستاك بالسواك الجاف).. وقلت: أليّنه لك؟ فأشار برأسه أن نعم.. فليّنته.. فأَمَرّه (وفي رواية: أنه استنَّ بها كأحسن ما كان مستنا).. وبين يديه ركوة (إناء من جلد) فيها ماء.. فجعل يدخل يديه في الماء.. فيمسح بها وجهه يقول.. "لا إله إلا الله .. إن للموت سكرات.."
وفي رواية عن الترمذي والنسائي وابن ماجه.. "اللهم أعنّي على سكرات الموت"
سبحان الله ! فحتى على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .. وهو أحب خلق الله إلى الله .. للموت سكرات..
وعندما فرغ (صلى الله عليه وسلم) من السواك..
رفع يده أو إصبعه..
وشخص ببصره نحو السقف..
وتحركت شفتاه بكلمات يتمتم بها في صوت خفيض..
تقول (عائشة) بأنها سمعته (صلى الله عليه وسلم) يقول ..
مع الذين أنعمتَ عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .. اللهم اغفر لي وارحمني .. والحقني بالرفيق الأعلى.. اللهم الرفيق الأعلى .. اللهم الرفيق الأعلى.. اللهم الرفيق الأعلى..
ثم مالت يده... وقبضت روحه (صلى الله عليه وسلم)..
مات رسول الله (صلى الله عليه وسلم).. إنا لله وإنا إليه راجعون.. حقيقة لا سبيل إلى إنكارها.. فكل البشر يموتون.. ورسول الله بشر..
قال الله تعالى
(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)
وها قد جاءت اللحظة الأليمة..
لقد مات رسول الله (صلى الله عليه وسلم).. وأظلمت مدينة رسول الله (صلى الله عليه وسلم).. لقد نَوّرها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم دخلها.. فتحولت من يثرب إلى المدينة المنورة..
ولقد أظلمت المدينة نفسها يوم مات الحبيب (صلى الله عليه وسلم).. بل لقد أظلمت الدنيا بأسرها... وليس هذا مبالغة .. فالرسول (صلى الله عليه وسلم) ليس مجرد رجل عظيم.. أو قائد فذّ.. أو مفكر عملاق فقدته البشرية.. إنما هو في حقيقته الأصيلة .. رسول من رب العالمين إلى الناس ..
ولا شك أن الفتن ستقبل وتقبل وتقبل ...بعد وفاته (صلى الله عليه وسلم).. وعلى الناس أن يتوقعوا ظلاما في فترات كثيرة مقبلة... والرسول (صلى الله عليه وسلم) أخبر عن فتنة من هذا النوع ستأتي على أمته.. كما في مسلم ..
"بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم .. يُصبح الرجل فيها مؤمنا ويُمسي كافرا .. ويُمسي الرجل فيها مؤمنا ويُصبح كافرا .. يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا.."
بل أنه (صلى الله عليه وسلم) .. ربط اشتداد هذه الفتنة بموته .. كما في مسلم عن أبي بردة..
"النجوومُ أمنةُ للسماء .. فإذا ذهبت النجوم .. أتى السماء ما توعَد.. وأنا أمنةٌ لأصحابي .. فإذا ذهبتُ .. أتى أصحابي ما يوعدون .. وأصحابي أمنةٌ لأمتي ... فإذا ذهب أصحابي.. أتى أمتي ما يوعدون.."
والمقصود بالوعد هنا ...هو الفتنة والحروب.. كما يقول (النووي) رحمه الله في شرح صحيح مسلم...
إذن .. لقد كان موته (صلى الله عليه وسلم).. فتنة حقيقية للأمة الإسلامية.. لكن لا شك أن الفتنة كانت أعظم ما يكون ....عند أصحابه رضي الله عنهم.. فليس من رأى كمن سمع.. وليس من عاش وخالط ..كمن قرأ كتابا.. أو سمع محاضرة.. فمصيبة الصحابة بفقده (صلى الله عليه وسلم) .. كانت أعظم من مصيبتهم في أي مسلم..
ولقد اضطرب المسلمون اضطرابا شديدا..!
وذهل بعضهم فلا يستطيع التفكير..!
وقعد بعضهم لا يستطيع القيام..!
وسكت بعضهم لا يستطيع الكلام.. !
وأنكر بعضهم لا يستطيع التصديق.. !
وقد قال (عمر) .. والله ما مات رسول الله ..!
يقول ذلك ...وهو يعتقد بعدم موته تمام الاعتقاد..
ثم قال (عمر).. وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم ...يزعمون أنه مات...!
وفي رواية يقول... إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) توفي .. إن رسول الله ما مات.. لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران.. فغاب عن قومه أربعين ليلة... ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات.
هنا وقفة ..
فنحن أمام كلام (عمر) .. وما أدراك من هو (عمر) .. !
الذي قال فيه (صلى الله عليه وسلم) فيما رواه الترمذي.. "أشدّهم في أمر الله عمر"
وقال فيه (صلى الله عليه وسلم).. "لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدّثون.. فإن يكُ في أمتي أحد فإنه عمر"
إذن .. فلننظر إلى (عمر) .. لنعلم عظم المصيبة على باقي الصحابة .. !!
ولقد ظل المسلمون على هذه الحالة ... يتمنون صدق كلام (ابن الخطاب)...
حتى جاء (الصديق).. ودخل مسرعا إلى بيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم).. وبيت ابنته (عائشة) .. فوجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نائما على فراشه.. وقد غطوا وجهه.. فكشف عن وجهه (صلى الله عليه وسلم) ..
وفي لحظة ...
أدرك (أبو بكر) الحقيقة المرة..
لقد مات (صلى الله عليه وسلم) فعلا ..
مات حبيبه ورسوله ورفيق شبابه وحياته وموطن سره وزوج ابنته (صلى الله عليه وسلم)...
فبكى (أبو بكر) .. بكاءً مرا ..
ورغم كل ذاك الألم الذي اعتصر قلب (أبو بكر) .. إلا أن الله أنزل على (الصديق) ثباتا عجيبا.. ولو لم يكن له من المواقف في الإسلام إلا هذا الموقف .. لكفَى دليلا على عظمته..
لكن سبحان الله ... ما أكثر مواقفك العظيمة يا (أبا بكر) .. !
ولقد انكبّ (أبو بكر) على حبيبه (صلى الله عليه وسلم).. فقبّل جبهته..
ثم قال وهو يضع يديه على صدغي الرسول (صلى الله عليه وسلم).. وانبياه.. واخليلاه.. واصفياه !
ثم تماسك قائلا .. بأبي أنت وأمي... طبت حيا وميتا .. والذي نفسي بيده .. لايذيقك الله الموتتين ابدا .. أما الموتة الأولى التي كُتبت عليك .. فقد مِتّها..
ثم أسرع (أبو بكر) خارجا إلى الناس ...ليسكن من رَوْعهم.. وليثبتهم في مصيبتهم..
فوجد (عمر) يقول ما يقول... ويقسم على أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يمت..
فقال له .. أيها الحالف .. على رِسلك ..
وفي رواية قال له... اجلس يا عمر...
لكن (عمر) لم يكن يسمع شيئا.. فلقد فقد كل قدرة على التفكير...!
فتركه (أبو بكر) .. واتجه إلى الناس يخاطبهم..
فأقبل الناس عليه... وتركوا (عمر)..
فخطب فيهم خطبته المشهورة الموفَّقة.. التي تعتبر على قصرها... من أهم الخطب في تاريخ البشرية..
فقد ثبت الله سبحانه بها ... أمةً كادت أن تضل.. وأوشكت أن تُفتن..
قال (أبو بكر) في حزم ... بعد أن حمد الله وأثنى عليه..
ألا من كان يعبد محمدا (صلى الله عليه وسلم) .. فإن محمدا قد مات.. ومن كان يعبد الله ...فإن الله حي لا يموت..
الله الله الله ..
فانظر كيف ثبته الله .. ليقف بفقه ٍ عميق على حقيقة الأمر.. ويضعه في حجمه الطبيعي.. فبرغم عظم المصيبة ..إلا أنه يجب ألا تخرجكم عن شعوركم وحكمتكم وإيمانكم... حقيقة الأمر أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بشر.. وحقيقة الأمر أن البشر جميعا يموتون..
وحقيقة الأمر أننا ما عبدناه (صلى الله عليه وسلم) لحظة... لكننا جميعا عبدنا رب العالمين .. والله حي لا يموت... فلا داعي للاختلاط.. ولا داعي للفتنة.. ولا داعي للاضطراب..
فما حدث كان أمرا متوقعا.. وربنا الذي يرى ردّ فعلنا ...حي لا يموت.. وسيجزينا على صبرنا.. وسيعاقبنا على جزعنا...
بعدها .. قرأ (أبو بكر) في توفيق عجيب ... آية من آيات سورة آل عمران.. تبصّر المسلمين بالحقيقة كاملة...وتعرفهم بما يجب عليهم فيها..
قال (أبو بكر)... (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ)
يقول (ابن عباس).. والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية.. حتى تلاها أبو بكر.. فتلقاها منه الناس كلهم... فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها...
مع إن الآية قد نزلت منذ 7 سنوات .. لكن أدرك الناس ساعتها ... أن رسول الله قد مات.. فأخرجت الآية الكريمة المسلمين ...من أوهام الأحلام إلى حقيقة الموت..
يقول (عمر) .. والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها.. فعُقِرتُ حتى ما تقلني رجلاي.. وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها... علمتُ أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قد مات...
فما تحمل (عمر) العملاق المصيبة... فسقط مغشيا عليه...
وارتفع البكاء في كل أنحاء المدينة المنورة....
ثم جاء (أبو ذؤيب الهذلي) رحمه الله .. هو من التابعين .. وكان مسلما على عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) .. لكنه لم يره ..
يقول (أبو ذؤيب) .. قدمتُ المدينة ولأهلها ضجيجٌ بالبكاء.. كضجيج الحجيج أهلّوا جميعا بالإحرام.. فقلت: مه؟ قالوا: قُبض رسول الله (صلى الله عليه وسلم)...
وقامت (فاطمة).. بنت رسول الله (صلى الله عليه وسلم).. كما روى البخاري عن أنس ..
وهي تقول .. يا أبتاه... أجاب ربا دعاه... يا أبتاه ...من جنة الفردوس مأواه.. يا أبتاه ...إلى جبريل ننعاه...
لقد كانت مصيبة بحق ...أخرجت معظم الحكماء عن حكمتهم..
بدأت الأمة في أخذ خطوات عملية للخروج من الأزمة الهائلة.. فكانت أمام الأمة قضيتان في غاية الأهمية.. لا بد من حسمهما بسرعة...
القضية الأولى
من يلي أمور المسلمين بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؟ فهذه دولة كبرى الآن.. ولا بد لها من زعامة.. وبرغم فداحة المصاب .. إلا أن واقعية الصحابة حتمت عليهم أن يختاروا من بينهم مَن يحكمهم بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم).. ولذلك .. اجتمع الصحابة في سقيفة بني ساعدة.. وبعد مشاورات ومداولات ...اختاروا (أبا بكر الصديق).. ثاني اثنين.. والصاحب الأول لرسول الله (صلى الله عليه وسلم).. وأعلم الصحابة.. وأتقى الصحابة.. وأفقه الصحابة.. ورضي الله عن الصحابة أجمعين...
القضية الثانية
هي قضية تغسيل الرسول وتكفينه ودفنه (صلى الله عليه وسلم).. وهي قضية شائكة جدا ومحيرة.. ومن القضايا الأولى التي سيأخذ فيها الصحابة قرارا في غياب الرسول (صلى الله عليه وسلم).. فهناك من الأحكام الفقهية ..ما قد يكون خاصا برسول الله (صلى الله عليه وسلم).. وهناك ما قد يكون عاما على عموم المسلمين.. والموضوع يحتاج إلى دقة فهم وحسن توفيق...
فماذا سيفعلون ؟!!
أما الغسل ..فقد حار الصحابة في أمره..
فقالوا.. والله ما ندري ...أنجرد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من ثيابه كما نجرد موتانا.. أم نغسله وعليه ثيابه؟
فلما اختلفوا ...ألقى الله عليهم النوم... !
حتى ما منهم رجل إلا وذقنه في صدره... !
ثم كلمهم مُكَلّم من ناحية البيت... لا يدرون من هو... أن اغسلوا النبي (صلى الله عليه وسلم) وعليه ثيابه..!
فقاموا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فغسلوه وعليه قميصه.. يصبون الماء فوق القميص.. ويدلكونه بالقميص دون أيديهم... والحديث هذا الذي روى قصة الغسل حديث صحيح رواه أبو داود.. وأحمد.. وابن حبان.. والحاكم.. وابن ماجه.. والبيهقي وغيرهم...
وقد قام بعملية الغسل مجموعة من الصحابة ...معظمهم من آل البيت.. فكان (علي بن أبي طالب) يغسله.. و (أسامة بن زيد) و (شقران) مولى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .. يصبان الماء.. و (العباس) عم النبي وولداه (قُثم والفضل) يقلّبونه .. و الصحابي (أوس بن خولي الأنصاري)...
ثم بعد ذلك .. كُفن (صلى الله عليه وسلم) في 3 أثواب يمانية بيض سحولية (من مدينة سحول باليمن) ... من كرسف (أي من قطن).. ليس فيها قميص.. ولا عمامة.. كما روى ذلك البخاري ومسلم عن (عائشة)...
وكان هذا الغسل والتكفين ...في صباح يوم الثلاثاء ..
وبعد الغسل والتكفين.. وضعوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على فراشه.. ثم بدءوا في الصلاة عليه.. ودخل الناس أرسالا... كما يروي ابن ماجه.. وأحمد عن (ابن عباس)... فكانوا يدخلون عشرة عشرة..
وصلى عليه (صلى الله عليه وسلم) أولا أهل بيته وعشيرته... ثم المهاجرون.. ثم الأنصار.. ثم بقية الرجال في المدينة.. ثم دخلت النساء... فصلين عليه .. ثم بعد ذلك الصبيان.. حتى صلى عليه جميع من بالمدينة من المؤمنين...
ثم كانت بعد ذلك قضية الدفن...
واختلف الصحابة في مكان الدفن... وفي كيفيته..
أما مكان الدفن فقال بعضهم.. يدفن في مسجده... وقال آخرون... يدفن مع أصحابه..
فقال (أبو بكر).. إني سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول "ما قُبض نبي إلا دفن حيث يُقبض"
فقرروا أن يدفنوا الرسول (صلى الله عليه وسلم) ...في المكان الذي مات فيه تماما.. وهو أسفل سريره في حجرة (عائشة)..
والرواية التي ذكرت قول (الصديق) هذا في سنن ابن ماجه عن (ابن عباس)... والرواية وإن كانت ضعيفة .. إلا أن لها طرقًا أخرى مرسلة ذكرها البيهقي في دلائل النبوة.. كذلك روى الترمذي في الشمائل .. والنسائي في الكبرى عن (أبي بكر) ما يؤيد هذا المعنى...لكن بألفاظ مختلفة.
أما عن كيفية الدفن ... فقد اختلف الصحابة كذلك في الطريقة التي يحفرون بها قبره (صلى الله عليه وسلم)..
ومن المعروف أن هناك طريقتين شرعيتين للدفن..
أما الطريقة الأولى فهي طريقة أهل مكة... وهي ما يعرف بالشق أو الضريح.. وكان الذي يقوم بذلك من الصحابة هو (أبو عبيدة بن الجراح)...
وأما الطريقة الثانية وهي اللحد... وهي طريقة أهل المدينة.. وفيها يتم الشق والحفر بصورة عادية.. ثم يتم بعد ذلك الحفر بطريقة أفقية جانبية... فيصبح القبر مثل الزاوية القائمة.. ويدفن الميت في المكان الجانبي الذي تم حفره في أسفل القبر.. وكان الذي يقوم بذلك هو (أبو طلحة الأنصاري)..
ويروي ابن ماجه من حديث (عائشة)... أنها قالت ... لما مات رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .. اختلفوا في اللحد والشق... حتى تكلموا في ذلك.. وارتفعت أصواتهم.. فقال عمر: لا تصخبوا عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حيا ولا ميتا.. فأرسلوا إلى الشقَّاق واللاَّحِد..
وقالوا كما جاء في رواية ابن ماجه عن (ابن عباس).. اللهم خِر لرسولك...
بمعنى أن اختر له الطريقة... فوجدوا (أبا طلحة).. ولم يجدوا (أبا عبيدة).. !
فعلموا أن الله سبحانه قد اختار لنبيه طريقة اللحد..
فجاء (أبو طلحة الأنصاري).. ورفع فراش رسول الله (صلى الله عليه وسلم).. وحفر اللحد الذي سيدفن فيه...
وفي آخر يوم الثلاثاء (أي في ليلة الأربعاء) .. بدأ الصحابة في إنزال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في قبره..
ونزل في قبره علي.. والفضل بن العباس .. وقثم بن العباس .. وشقران مولى الرسول (صلى الله عليه وسلم).. وقيل: نزل معهم عبد الرحمن بن عوف... وقيل: أوس بن خولي...
وبعد أن وُضع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .. أهالوا عليه التراب..
لتغلق أهم صفحة من صفحات التاريخ البشري...
لم يصدق الصحابة أنفسهم... من كونهم يعيشون في الحياة ...دون رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .. ومن كونهم يمشون على الأرض ...وهو يرقد تحتها...
يقول (أنس بن مالك).. ..ولما نفضنا عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الأيدي.. وإنا لفي دفنه ...حتى أنكرنا قلوبنا....
وكأن القلوب ليست القلوب... لقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يمدها بنور وهدى وأمان وراحة واطمئنان.. أبدا ليست قلوبنا القلوب التي كانت في صدورنا ... يوم كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حيا بين أظهرنا...
ويروي البخاري عن أنس أن (فاطمة) قالت له .. يا أنس.. أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) التراب؟!
لا...
من المؤكد أن نفوسهم لم تطب بذلك..
لكن ماذا يفعلون؟!
قَدَرٌ كتبه الله على كل عباده.. ولا رادّ لقضائه.. وإنا لله وإنا إليه راجعون....
و لعل الشيء الوحيد الذي كان يُصبر الصحابة على فراق الرسول (صلى الله عليه وسلم).. أنهم كانوا على موعد معه يوم القيامة..
فقد كان (صلى الله عليه وسلم) يقول لهم قبل موته .. "موعدكم الحوض"..
وكان الصحابة يخشون أن يكونوا بعيدين عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في الجنة.. لولا الموقف العظيم الذي رواه البخاري ومسلم عن (أنس)..
وفيه... جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)... فسأله عن الساعة فقال: متى الساعة؟ قال (صلى الله عليه وسلم).... "وماذا أعددتَ لها؟" قال: لا شيءَ ...إلا أني أحب الله ورسوله .. فقال (صلى الله عليه وسلم).. "أنت مع من أحببت"
فنحن نحب النبي (صلى الله عليه وسلم).. وأبا بكر .. وعمر.. ونرجو أن نكون معهم بحبنا إياهم.. وإن لم نعمل بمثل أعمالهم...
والصحابة كانوا يرجون اجتماعهم مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم).. ليس عند الحوض أو على باب الجنة فقط.. لكن حتى في داخل الجنة ذاتها..!
ويظهر ذلك بوضوح أكثر .. في الموقف الذي رواه الطبراني عن (عائشة)..
أن رجلا جاء إلى النبي (صلى الله عليه وسلم).. فقال: يا رسول الله.. إنك لأحب إلي من نفسي.. وإنك لأحب إلي من أهلي... وأحب إلي من ولدي.. وإني لأكون في البيت.. فأذكرك فما أصبر حتى آتيك.. فأنظر إليك.. وإذا ذكرتُ موتي وموتك.. عرفت أنك إذا دخلت الجنة رُفعت مع النبيين.. وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك...
سبحان الحبيب الرحمن .. ! فلم يرد عليه الرسول (صلى الله عليه وسلم) شيئا .. حتى نزل جبريل بهذه الآية ..
(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)
لقد كان الصحابة يعيشون على أمل اللقاء مع الحبيب في الجنة.. وهذا الذي دفعهم بعد ذلك لاستقبال الموت... ليس بنفس راضية فقط.. لكن بنفس سعيدة..
حتى رأينا الصحابي (بلال) وهو على فراش الموت .. سعيدا راضيا بأنه سيموت...!
لماذا؟
لأنه سيقابل من يحب .. يقول (بلال) .. غدا ألقى الأحبة ...محمدا وصحبه..!
وهذا الذي أسعد (فاطمة) ... بنت الرسول (صلى الله عليه وسلم)... حتى ضحكت..!
وهذا الذي جعل (أنس) دائم التذكر لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
حتى إنه يقول كما روى أحمد.. قلّ ليلة تأتي علي إلا وأنا أرى فيها خليلي (صلى الله عليه وسلم)..! | |
|
| |
المغربي المراقبون
عدد المساهمات : 1622 تاريخ التسجيل : 27/01/2014
| موضوع: رد: سيرة سيد الخلق الخميس 10 يوليو 2014, 06:05 | |
| هل مات رسول الله (صلى الله عليه وسلم).. ؟!
لا ...
فهو حي في قلوبنا .. لأنه حبيب رب العالمين .. وهو حي في قلوبنا .. لأنه سيد الأولين والآخرين .. وهو حي في قلوبنا .. لأن سيرته (صلى الله عليه وسلم) هي خير السِير.. وأعظم السِير .. وهو حي في قلوبنا .. لأن على قلبه (صلى الله عليه وسلم) قد أنزل الله القرآن الكريم .. وهو حي في قلوبنا .. لأن كتابه هو خير كتاب سماوي لأهل الأرض.. وهو حي في قلوبنا .. لأنه أكرم وأشرف قدوة بشرية .. وهو حي في قلوبنا .. لأنه أتقى مربي عرفته الإنسانية.. وهو حي في قلوبنا .. لأن سنّته وحيٌ موحى ..
ولأنه (صلى الله عليه وسلم) من البشر .. فمن لم يستطع أن يقتدي به كونه (صلى الله عليه وسلم) .. مُوحى إليه قرآنا ولفظا .. فليقتدي به بشرا .. وقائدا عسكريا .. ونبيلا في الحروب .. ورحيما بين الناس .. وعادلا مع الصاحب والعدو..
ومن لم يستطع أن يفهم القرآن الكريم .. وحيا وتنزيلا .. فليقرأ سيرته (صلى الله عليه وسلم).. ليتعلم .. وليفقه .. وليتدبر .. وليشكر .. وليفتخر .. بأنه من المسلمين ..
لكن ..
هل هذا هو كل شيء ؟!
لا ..
فرحمة الله لم تنته بعد ..
ونحن أمة آخر الزمان .. الموعودين بقدوم بضعةٌ من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .. هو ذاك العبد الصالح المهدي .. الذي سيعز الله به الإسلام والمسلمين .. ويذل الله به الشرك والمشركين ..
وأن سنن الله في أرضه .. لسوف تتكرر .. كما في بدر وأحد والاحزابَ ومؤته وحنين وتبوك ..
وستحل فتن ... كتلك التي أتت في زمنه (صلى الله عليه وسلم) .. ولن ينجو منها إلا من يلتزم بأوامر المهدي .. كما نجا الصحابة بالتزامهم بأمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ..
وكما حصل في السيرة .. فلو أمرك المهدي بعدم الأكل .. فعليك الطاعة .. حتى لو كنت في جوع شديد .. وإن أمرك بعدم الشرب .. فعليك الطاعة .. حتى لو كنت في عطش قاتل.. وإن امرك ألا تفعل شيئا .. فعليك الطاعة .. حتى لو كنتَ بحاجة إليه .. وإن أمرك ألا تقتل عدوا .. فعليك الطاعة .. حتى لو كان العدوَ بجانبك .. وأن جعل من هو أصغر منك أميرا عليك.. فعليك الطاعة .. وقبول الانقياد كتابع..
وستحدث معجزات .. كثر .. حين يرى الناس بأم أعينهم .. أثر عظمة الدعاء الحق ..
وكما كانت طبقات الناس خمسة .. في زمنه (صلى الله عليه وسلم) .. منهم عمالقة الايمان .. ومنهم عوام الإيمان .. ومنهم المؤمنين القاعدين.. ومنهم المنافقين بالعموم .. ومنهم المنافقين المردة... فستكون شاكلتنا كما شاكلتهم .. وستكون قلاقلنا كما هي قلاقلهم ..
بل سيكون قَدَمُ كل منا .. على قدم صحابي من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ..
لذلك .. كما كان الحبيب البشري الأول .. هو رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .. سيكون الحبيب البشري الأخير .. هو ذاك العبد الصالح الذي سيملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلما وجورا..
وكلاهما .. موصول برب العالمين .. أعظم حبيب .. وأكرم حبيب .. إله الحق .. الواحد الاحد .. الفرد الصمد .. الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد.. | |
|
| |
| سيرة سيد الخلق | |
|